اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو
طائر النورس: لحن الصمود في أنفاس البحر د. انسام المعروف

قراءة نقدية بيئية لقصة طائر النورس:
لحن الصمود في أنفاس البحر
قراءة – د. انسام المعروف
نص آمال بوحرب لوحة حيّة أكثر منه سرد قصصي
حين قرأت نص د. آمال بوحرب، شعرت أنني أمام لوحة حيّة أكثر من كوني أمام سرد قصصي. منذ الجملة الأولى، حيث يجلس خالد على كرسيه الخشبي متأملاً البحر، بدا لي أن الكاتب يريد أن يضع القارئ في قلب المشهد البيئي لا على هامشه. الأمواج هنا ليست مجرد خلفية، بل هي «أنفاس الكون»، أي أنها تشارك الإنسان فعله الحيوي ذاته: التنفس. وحين يملأ خالد رئتيه بالهواء ثم يزفر، يكتشف أن هذا الفعل الطبيعي البسيط هو نفسه رابط وجودي بينه وبين الطبيعة، وهو ما يفتح باب القراءة من منظور النقد البيئي الذي يهتم بفضّ الثنائية التقليدية بين الإنسان والطبيعة. ولم يكن النورس في النص مجرد صورة شاعرية، بل وُضع في موقع الفاعل. لفت انتباهي توصيفه بأنه لا يقبل السمك الميت، وكأن له شرفاً أو كرامة خاصة به. هذه الإشارة الدقيقة تنقلنا من الرمز إلى الاعتراف بالوكالة الحيوانية: الطائر لا يعيش وفق معايير الإنسان بل وفق قانون خاص به. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن خالد يقرأ النورس بوصفه انعكاساً لمخاوفه: الشيخوخة، التقاعد، العجز. تساءل مثلاً: «هل أُحال هذا النورس إلى المعاش كما سأُحال أنا؟» هنا يظهر الجانب الإنساني في محاولته إسقاط هواجسه على الكائن الآخر. النص إذن يلعب على الحافة بين الاعتراف باستقلالية الحيوان وبين تحويله إلى مرآة للذات. ان الإحالة إلى رواية الشيخ والبحر لهمنغواي بدت لي محمّلة بالدلالات. فسانتياغو يقاتل البحر ليحافظ على كرامته كبشر، بينما النورس يصارع الريح والجوع بدافع غريزي للبقاء. ومع ذلك، يضع النص الاثنين في سياق واحد، كأنهما يشاركان في «ملحمة الصمود» وإن اختلفت لغتها ومعناها. وهنا يختبر القارئ التوتر بين البطولة الإنسانية المُمجّدة في الأدب وبين الهشاشة القاسية للحياة في الطبيعة. ان اللغة التي كُتب بها النص ساعدت كثيراً على إبراز هذه الرؤية؛ فالمفردات المرتبطة بالتنفس والهواء والريح لم تُستخدم عَرَضاً، بل شكّلت شبكة رمزية تؤكد أن البيئة ليست مجرد مكان بل فاعل حقيقي. الريح مثلاً لا تهب وحسب، بل تُسقط الجريدة من يد خالد وتُشوش رؤيته، أي أنها تُغيّر مجرى الأحداث مثل شخصية ثانية في النص. أما مشهد موت النورس فقد ترك في نفسي ثِقلاً مشابهاً لما شعر به خالد. لم يقدّم النص سبباً واضحاً لموته، بل ترك الباب مفتوحاً لتأويلات عدة: هل هو ضعف الجسد، قسوة البحر، أم رمز لفناء حتمي لا مهرب منه؟ وفي كل الحالات، بدا لي أن هذه النهاية تفكك الحلم الإنساني بإيجاد عزاء أبدي في صمود الكائنات. هنا تظهر المفارقة: الإنسان يبحث عن نموذج للصمود، بينما العالم الطبيعي يكشف له أن الصمود لا يضمن النجاة. ان العودة إلى «البيت المهجور» وفتح رواية همنغواي كانت بمثابة عودة إلى نصوص تُواسي الذات البشرية بعد أن فشلت الطبيعة في منحها العزاء. بدا البيت وكأنه منطقة وسيطة بين المجتمع الذي لم يعد خالد ينتمي إليه، وبين البحر الذي فقد سحره بعد موت الطائر. بهذا المعنى، يصبح النص كله رحلة للبحث عن معنى في النهاية، لا في البداية. وما خرجتُ به من هذه القراءة أن نص «طائر النورس» يحقق ما يسعى إليه النقد البيئي وما بعد-الإنساني: فهو يُعيد التفكير في العلاقة بين الإنسان والكائنات الأخرى، ويعترف بالوكالة الحيوانية، لكنه في الوقت نفسه يكشف عجز الإنسان عن الانفصال عن ذاته وعن حاجته الدائمة إلى تحويل الآخر الطبيعي إلى مرآة لأسئلته الوجودية. إن الصمود هنا ليس مجداً يُتَوج بالانتصار، بل هو فعل مقاومة قد ينتهي بالموت، ومع ذلك يظل قادراً على أن يترك أثراً في الذاكرة .