اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو
القراءة النقدية بين النص والوعي للناقدة والباحثة د/آمال بوحرب


مقدمة :
إذا اعتبرنا أن القراءة الفلسفية فعل تأملي فإن السؤال المركزي كيف نقرأ النص من وجهة فلسفية ؟ سؤال يؤكد أن القراءة لم تكن بأي حال من الأحوال مجرد استقبال للكلمات أو المعنى الظاهر ولكنها عملية انغماس في أبعاد النص العميقة حيث يلتقي القارئ بالنص في حوار مستمر حول الوجود والمعرفة والقيم القراءة الفلسفية تؤكد أن المعنى لا يقتصر على قصد الكاتب وإنما تفاعل القارئ مع النص والمعنى يتجدد مع كل قراءة جديدة ليصبح النص فضاءً حيًا للتأمل والفهم العميق ولعل هذا السؤال يطرح اهمية الاختلاف في الرؤى وفي المدارس الفلسفية . وإن يؤكد “هانس-غيورغ غادامير “أن الفهم الفلسفي فعل اندماج بين أفق النص وأفق القارئ حيث يلتقي الماضي بالحاضر لينبثق معنى جديد أما “بول ريكور يشدد “على أن التأويل الفلسفي هو فن إحياء المعنى الكامن خلف النصوص وأن كل قراءة فلسفية تفتح إمكانات جديدة للمعنى عبر الحوار المستمر مع النص فأن “مارتن هايدغر “يؤكد أن النص فضاء للكشف عن الكينونة إذ “الوجود يظهر في اللغة والنص مسرح لهذا الظهور” بالتالي يصبح السؤال عن كيفية قراءة النص فلسفيًا تجربة وجودية مواجهة للمعنى للنفس تؤكد على دور القارئ في صناعة المعنى وإعادة اكتشافه مع كل قراءة . القراءة الفلسفية فعل تأويلي متجدد يؤكد ريتشارد رورتي على أن النصوص تفتح إمكانيات متعددة للفكر والتجربة وأن فهمها لا يتحقق إلا عبر الانفتاح على السياقات المختلفة والتأمل في إمكانيات المعنى، ما يجعل القراءة الفلسفية فعلًا إبداعيًا يمكّن القارئ من صياغة الدلالات واستخراج المعاني الكامنة في أعماق النص وهكذا يسمح للمعنى بالتحرك بحرية ويحوّل القارئ من مجرد متلقٍ إلى مشارك فاعل يشارك في صنع المعرفة والتفاعل مع النص في أفق مستمر من التأمل والوعي ولكن هذه العملية ليست بسيطة ومتناولة عند الجميع كما يرى إيمانويل ليفينا أن القراءة الفلسفية فعل مسؤولية إذ تضع القارئ أمام الآخر والوجود في آن واحد وتجعل منه مشاركًا في إنتاج المعنى وليس مجرد متلقٍ سلبي والتأويل يصبح ضرورة وجودية لاستكشاف طبقات المعنى المتعددة، ومواجهة الأسئلة الأخلاقية والوجودية التي يحملها النصوص
كيف نقرأ النص من وجهة فلسفية؟
تبدأ القراءة الفلسفية بطرق مختلفة ولكنها تعتمد في أغلبها على الوقوف عند مستويات المعنى المختلفة الظاهر منها والمستتر المباشر والمضمر الصوتي والرمزي فالنص ليس مجرد بنية لغوية بل فضاء فكري غني بالطبقات تتقاطع فيه أبعاد أنطولوجية تتعلق بالوجود وإبستيمية تتعلق بالمعرفة وأكسيوجية تتعلق بالقيم والقارئ الفلسفي يتعامل مع النص باعتباره كائنًا حيًا يتحرك بين صمت الكاتب وأسئلة القارئ ،وبين ما يُقال وما يُسكت عنه في مسعى لاكتشاف أفق أوسع للمعنى وإدراك الرسائل الخفية التي يحملها النص اعتماد المنهج التأويلي يعد إحدى الركائز الأساسية للقراءة الفلسفية، فهو يمنح النص إمكانات متعددة للمعنى ويتيح للقارئ استكشاف طبقات لم تُكشف بالقراءة السطحية كما يشير هايدغر النصوص الكبرى تُقرأ من خلال الأسئلة التي تثيرها حول الكينونة والوجود وليس عبر الإجابات الجاهزة إذ إن النص ككيان فلسفي يظل دائمًا في حالة انكشاف مستمر لا يمكن حصره في حدود ثابتة إضافة إلى ذلك تسعى القراءة الفلسفية إلى إدراك المستوى النقدي للنص وليس مجرد تتبع تسلسل الأحداث أو المنطق الداخلي للخطاب، فهي تتطلب التوقف عند ما يخفيه النص من تناقضات أو صراعات أو مساحات مسكوت عنها في هذا السياق يوضح بول ريكور أن الفلسفة الحقيقية تبدأ حين ندرك أن النصوص تقول أكثر مما تقصد وأن المعنى الحقيقي يتجاوز قصد المؤلف مثال واضح من الأدب على هذه الفكرة نجده في رواية “الأخوة كارامازوف” لفيوودور دوستويفسكي حيث تتشابك الطبقات النفسية والفلسفية والاجتماعية في النص والقارئ الفلسفي هنا لا يكتفي بمتابعة الأحداث أو الحوار بين الشخصيات بل يسائل الأسئلة الكبرى حول الحرية والمسؤولية والخطيئة والضمير الصمت الداخلي للشخصيات والتناقضات التي تظهر في سلوكهم وأفعالهم تتيح للقارئ ،استكشاف أبعاد أعمق للوجود الإنساني ومعانيه بما يتجاوز ما قصد المؤلف قوله بشكل مباشر هذا النوع من القراءة يحوّل النص من مجرد سرد إلى فضاء حواري حي حيث يتلاقى فهم القارئ مع الأسئلة التي يطرحها النص حول طبيعة الخير والشر والعدالة فتصبح الرواية تجربة فلسفية مفعمة بالقيم . القراءة الفلسفية ممارسة للوعي النقدي يتكوّن الوعي الفلسفي من ممارسة متواصلة للقراءة الناقدة قراءة تسائل النص في أبعاده الداخلية وخلفياته المعرفية والقيمية وتفحص سياقه وإمكاناته القراءة الفلسفية بهذا المعنى فعل مقاومة ضد السطحية وضد الانجراف في تيار العادات الفكرية المألوفة فهي تدعو إلى ممارسة الشك النقدي وإعادة التفكير في المسلّمات ليس بغرض الهدم فحسب بل لإعادة البناء على أسس أعمق وأكثر صلابة وعلى سبيل المثال، في رواية”مائك عام من الغرام “وغابرييل غارسيا ماركيز”يواجه القارئ دورة التاريخ في قرية ماكوندو، وكيف تتكرر أخطاء الأجيال فتبرز أهمية الوعي النقدي في فهم تأثير التقاليد والقيم الاجتماعية على حرية الفرد وقراراته أي أن القراءة الفلسفية هنا لا تكتفي بتفسير الأحداث وإنما تطرح أسئلة عن القوى الخفية التي تشكّل الوعي الجمعي وتحث القارئ على نقد البنى الاجتماعية والثقافية التي تكرّس الجمود والتكرار،بهذه الطريقة تتحول القراءة إلى قوة للوعي الفردي والجماعي فتحرر العقل من الانغلاق وتمنحه القدرة على مواجهة الحياة بتفكير ناقد ومستقل كما يؤكد جان بول سارتر أن الحرية تبدأ حين نعي مسؤوليتنا في إنتاج المعنى والقراءة الفلسفية تمثل ممارسة جوهرية لهذه الحرية إذ تجعلنا ندرك أن قدرتنا على التساؤل وإعادة صياغة الواقع ممارسة مباشرة للحرية الفردية القراءة الفلسفية بين الفرد والجماعة. رغم أن القراءة تبدو فعلًا فرديًا في ظاهرها إلا أن القراءة الفلسفية تكشف عن بعد جماعي أساسي إذ تفتح فضاء للنقاش والحوار المستمر عبر التاريخ والفكر حين يقرأ القارئ الفلسفي نصًا لأرسطو أو ابن رشد أو نيتشه فإنه لا يقرأ بمعزل عن التاريخ الإنساني بل يندمج في حوار ممتد مع إرث الفكر الإنساني حوار يغني تجربته الشخصية ويربطها بخيوط الفكر الكوني وهذه العملية تجعل القراءة الفلسفية ،ركيزة أساسية في بناء الثقافة الجماعية إذ تحرر العقل من الانغلاق على الذات وتفتح المجال لتعدد وجهات النظر كما تجعل من الفكر تجربة مشتركة تسهم في إنتاج معنى جماعي وحضاري . في أعمال دانتي خاصة “الكوميديا الإلهية”، يواجه القارئ مفاهيم وجودية وأخلاقية عميقة حول الخير والشر والعدالة والخلاص رغم أن النص يقدم رحلة فردية للبطل، فإن القراءة الفلسفية تحوّل هذه التجربة إلى فعل جماعي إذ يشارك القراء عبر التاريخ في الحوار مع النص وفهمه من زوايا متعددة فكل قارئ يضيف تفسيره الخاص ويعيد صياغة المعنى، فينشأ بذلك حوار متواصل بين الفرد والجماعة يشبه ما يراه النقاد الفلاسفة بأن النصوص الكبرى تولّد ديمومة للمعنى تتجاوز الزمان والمكان وتفتح المجال أمام عقل جماعي مستنير. ومن هنا تكون القراءة الفلسفية ليست مجرد ممارسة فردية للتأمل بل شرطًا أساسيًا للتواصل الحضاري والوعي النقدي المشترك. القراءة الفلسفية مشروع حياة القراءة الفلسفية تتجاوز كونها أداة لفهم النصوص لتصبح أسلوب حياة مسارًا دائمًا للمعرفة والتأمل حين يقرأ الإنسان نصًا فلسفيًا بعمق فإنه يتعلم كيفية مساءلة ذاته والعالم ويمارس النظر إلى الوجود من زاوية مفتوحة على المعنى بدل الانغلاق في يقينيات جاهزة أو مفاهيم مسلّمة بهذا المعنى تصبح القراءة الفلسفية نوعًا من الزهد في السطحية وسعيًا دائمًا وراء الحقيقة حتى وإن كانت هذه الحقيقة نسبية أو مراوغة فهي تدريب على الحرية الداخلية على مواجهة القلق وعلى تحمل عبء السؤال المستمر كما عبّر كيركغارد عن ذلك فالقلق ذاته طريق نحو الحرية والقراءة الفلسفية تتيح للإنسان أن يواجه هذا القلق بوعي ومسؤولية. في نص “الموت في البندقية “لتوماس مان “يعيش البطل تجربة وجودية عميقة مع الجمال والموت والرغبة، تجربة تبدو في ظاهرها بسيطة ومتواضعة إلا أن القراءة الفلسفية تكشف أن النص يفتح أفقًا للتفكير حول القيم الإنسانية الأساسية وحول الحياة فيصبح كل قارئ مشاركًا في استكشاف هذه التجربة ومساءلة ما فيها من تناقضات وصراعات والنص هنا يتحول إلى فضاء تفاعلي حيث يلتقي العقل الفردي مع وعي جماعي مستمر مع صراع وجودي مؤكدًا أن القراءة الفلسفية ليست عزليةبل ممارسة مشتركة لإنتاج المعرفة والمعنى حول ما معنى أن نكون ؟
خاتمة القراءة الفلسفية في هذا السياق تعددت وجهاتها واختلفت آلياتها وأصبحت من مجرد تقنيات معرفية إلى نمط وجودي يعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته وبالعالم فهي دعوة دائمة إلى التفكير العميق وإلى ممارسة الحرية من خلال السؤال المستمر وإلى خلق أفق مشترك من المعنى القراءة الفلسفية تمثل مشروع مقاومة ضد العدمية وبوابة نحو بناء وعي نقدي يجعل الإنسان أكثر مسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين ولكن كيف ينغمس القارئ بموضوعية في المشاركة النشطة بتفسيره للنص وفق رؤيته وتجربته الخاصة ؟ وما هي المقاييس التي تجعل من الفهم عملية حوارية مستمرة.؟ .