اخر الاخبارانفوكرافيكقسم السلايد شو

ملحمة ” الغدير للشاعر المسيحي بولس سلامة : يا سماء اشهدي أنني ذكرت عليا

 

فضاءات نيوز – متابعة 

الملحمة كأدب : المحلمة قصيدة أو قصص طويلة بأسلوب شعري تصور مآثر وأمجاد وأحداثاً جرت للأمم حيث تسطع البطولات في العادة لتكون محوراً يربط أجزاء الملحمة أو القصيدة الطويلة جداً ولذا يمكن القول أنها كانت تؤدي دوراً تاريخياً لدى الأمم المتحضرة نسبياً قبل تبلور فكرة كتابة التاريخ.
وتؤدي الملحمة دوراً اشعاعياً في الإلهام حيث تلهب في نفوس الشعب عشق المثل العليا والتضحية في سبيلها وتثير في الصدور روح المقاومة والاعتزاز بالأمجاد التي صنعها الأجداد.
وباختصار يمكن القول أن الملحمة هي قصة أمه ورواية كاملة عن حياة بطل هو رمز من رموزها الخالدة.
وعندما يذكر الأدب الملحمة تسطع أسماء عديدة من قبيل “الالياذة” لفرجيل ، “الفردوس المفقود” لملتون ، “الشاهنامه” لفردوسي.
غير أن للملحمة في الأدب العربي مفهوماً آخر ، “فهي تعني واقعة حربية كبرى كما جرى استخدامها في التاريخ كنبؤءات عما سيقع من أحداث جسام في المستقبل” كما يقول الأصفهاني.

من أهم ماجادت به قرائح الإنسان العربي في مجال الأدب الملحمة ، ملحمة عيد الغدير للأديب اللبناني الكبير بولس سلامة ، وهي كتجربة لم تلق الاهتمام المطلوب إعلامياً واكاديمياً كما لقي غيرها من الملاحم العالمية ،فلا ترى لها ذكراً في صفحات الكتب الدراسية والأبحاث الاكاديمية ولا على صفحات نقاد الأدب حديثه وقديمه.

ولأن أرواحنا تهفو بشوقٍ لكل ذكر للغدير ، سنستعرض هنا أهم صفحات تاريخ هذه الملحمة وكاتبها، وسنعرج بأرواحنا نسافر بها على أجنحة النور نتمثل عيد الغدير بلسان بولس سلامة.

في ظل عصر الإنهزام العسكري ، ولدت حالة انهزامية أخرى تجلت في ظفر الأعداء بقلاع العرب والمسلمين الفكرية وتبديدها وإقامة صروح فكرية لاتمت لواقع الأمة ولا تلائم تطلعاتها ولاتنتمي لها في شيء .
لم تكن تلك الأيام بعيدة في حساب أعمارنا فقد كانت في أجلى صورها في منتصف القرن الماضي ، تلك الحقبة التي شهدت انبعاث الجاهلية من قبرها بصورة أكثر ملائمة لعداد التاريخ.

في تلك الفترة كان بولس سلامه الشاب المسيحي المولود في بيئة إسلامية ، يسعى لتحقيق أحلامه في صياغة ملحمة تخلد بعضاً من تاريخ مَن يرى هو انه ينتسب لهم ، أشار عليه شيخ يدعى عبدالله العلالي أن ينظم أيام العرب في ملحمة يخلدها تاريخ هذه الأمة ، في حين اقترح عليه السيد عبدالحسين شرف الدين أن ينظم حادثة الغدير في ملحمة تخلدها البشرية .
كان اختيار السيد شرف الدين قد استحوذ على اهتمام بولس سلامة فراح يقرأ التاريخ الإسلامي بأدق تفاصيله حتى انقضت ستة أشهر وهو يحث الخطى على درب الماضي ، يستكشف عوالم لم يسمع بها هو ولم يُقدرها أبناء الإسلام.

اعتمد بولس سلامة في صياغته للملحمة التاريخية على موسوعة “الغدير في الكتاب والسنة والأدب” للعلامة الأميني ، وينقل التاريخ أن مراسلاتٍ بين العلامة وبولس قد ساعدت في ظهور هذه الملحمة بالثوب الذي تسربلت به حيث التوثيق التاريخي والبيان الأدبي وروح الملحمة.

مع لملمة شمس الرابع من حزيران 1948م خيوطها لتعلن موعد السفر ، كان بولس متكأً على نتاج ثلاثة أشهر من الكتابة في ملحمته ، وما إن ضرب الظلام أطنابه حتى استكان القلم وسكت في محراب النور ، فقد انتهى بولس من كتابة الملحمة بعد أن شهد للعالم أن في كل منصفٍ شيعياً ..
فهو لم يكترث لمن أخذ عليه الولوج في أمرٍ لا يخصه كمسيحي ، بل راح يسطر شهادة حق بعد أن صرخ بمعية قلمه أن علياً لم يكن ولن يكون ملكاً للمسلمين فحسب ، بل هو إنسان وحق للإنسان أن يفخر بأخيه .

في ملحمته المكونه من سبع وأربعين قصيدة ، تحتوي بمجملها على 3415 بيتاً طرق سلامة أبواب التاريخ الإسلامي بدء بالفترة التي سبقت ميلاد النبي الأكرم محمد صل اله عليه وآله وسلم مروراً بميلاده وانبثاق الرسالة السماوية ثم فصول التاريخ الإسلامي التي كان عليٌ عليه السلام أكبر صناعها فيصور ميلاده في بيت الله ومرافقته لنبي السماء ونهله من روي ماء محمد وكيف صاحبه وكان أول المؤمنين به وتتفجر عبقرية بولس وهو يصور مشاهد خلدتها صفحات التاريخ وطمسها الحاقدون ، أبدع في تصوير حادثة الغدير محور ملحمته وجاد بكل ما أُودع من بيان ، ثم يصور تفجع الدنيا لرحيل آخر أنبياء السماء وبداية زمن الزمهرير ، ويصور حال الأمة وهي تقتسم إرث السماء وعليٌ يودع محمد …

لو تخيرنا بعض مشاهد هذه الملحمة لبدأنا :
يصور بولس سلامة أمجاد بني هاشم وعزهم أيام الجاهلية وكيف كانواً نبراساً في دنيا الجاهلية المظلمة ، وفي هذه القصيدة يقول :

كان في ذلك الزمان القاتم … في رمال الحجاز شعب عارم
راح في لجة الضلالة يهوي … ليس يدري أي الفعال مآثم
إلى أن يقول :
هاشم يرفد الحجيج ويهدي فضله … الرزق للنسور القشاعم
حمل المجد صيته فتمشى في … مشية العطر في رفيق النسائم

ثم ينتقل ليحتفل مع الدنيا بميلاد مخلص البشرية من ظلامها النبي الأكرم محمد صل الله عليه وآله وسلم :

أرهف الكون سمعه وتمشت … في الجمادات نشوة الصهباء
واستفاقت جزيرة العرب حيرى … فمناة واللات في الدقعاء
وتوالت في أرض فارس ارزاء … جسام فنارها في انطفاء
حسب الرمل ذلك اليوم قبراً … ينبت الحلم في جفون الرائي
فسهول الحجاز بحر نضار … من نثير السبائك الصفراء
ضحك السبسب الخلي … وشقت أنمل الورد صفحة الدهناء
ذاك عرس الدنيا فلا غور أن … بث صلاحها ونمنمت في الكساء

ثم يصور كيف كانت قريش تطلب من عبدالمطلب أن يستسقي السماء فيضها ، بعد أن جفت حناجرهم ، فيأخذ عبدالمطلب حفيده لعلمه أن نظرة منه للسماء كفيلة بكل شيء :

رفع الطفل طرفه بانكسار … بين جفنيه مثل طيف البكاء
فتداعى الغمام من كل صوبٍ … وتبارك دموعه في السخاء

ثم ينتقل بولس ليقدم أرفع السجايا فداءً لكافل محمد ، أبو طالب :

يا أباطالب فدتك السجايا … من مجير سمح الجنان نصور

ولرحلة النبي الأكرم إلى غار حراء وانبثاق نور الرسالة حضور رائع في ملحمة بولس إذ يقول:

كل عام يرتاد غار حراء … مفعم الروح ملهم التفكير
هدأ الكون وأضحى الصوت حتى … لتحس الآذان همس الطيور
واذا صوت الهاتف يهتف أقرأ … فيرد الصدى نداء البشير
قال جبريل يامحمد كبر … باسم رب ملء الوجود قدير
صفحة الكون بدلت في ثوان … بين مرآتها ضمير الدهور
فإذا أحمد العظيم نبي … والمجيد القرآن حلم العصور

تكر الليالي والأيام على جزيرة العرب كما لم تفعل في التاريخ ، ليس في هذه الأرض القاحلة ما يُذكر من تاريخ سوى حروبٍ أضرمتها نساء ونوق وكؤوس خمر ، أما وقد بعث نورٌ من قلب مكة فقد غدا لشمس هذه البلاد حضورٌ أبهى ، بات للطير أنغامٌ أرق وأعذب ، وصار للحياة معنىً وهدف ، بعد أن كانت حياة الإنسان هناك لا تصنع فارقاً يُعتد به من العدم .

يتنقل بولس بين دفاتر التاريخ الإسلامي ويعاصر بقصائد ملحمته أيام الإسلام الأولى فيصور حال البلاد وهي تستقبل محمداً النبي بعد أن عهدته الأمين الهاشمي الكريم ، يسافر بولس من ضفة لأخرى فتراه يبحر في لجج الجمال المحمدي ويرسو على شواطىء علي ، وما عليٌ من محمد؟!!

وهاهو على منضدته يسطر ملحمةً بيراعه يحرر فيها الروح لتسافر عبر الأزمنه لتشهد ملحمة صنعها علي بعين محمد ..
ملحمة بدر الكبرى حيث المجابهة العسكرية الأولى بين معسكر النور ومعسكرات الديجور ، ولأي شيء تُصارع الظلمةُ النورَ وهي موقنةٌ بالهلاك ؟

يقول بولس مصوراً عزم علي الذي بدد طغيان قريش :

حال في حومة البراز علي .. جولة الليث في قطيع الشاء
يخسف السهل والجبال ويبقي .. وعيه الفذ في السنى والصفاء

ولا يمر حدث آخر ، فيه أرادت السماء عقد قران علي بفاطم دون أن يتوقف بولس ليصور مشهد الإمام علي وهو يطلب يد الزهراء عليها السلام ويجيبه معلمه الأكبر صل الله عليه وآله :

جاء بيت النبي والقلب خفق .. فهو في مثل رجفة البرداء
قال : أني ذكرت فاطمة .. وأبث صوت مكبل بالحياء
فأجاب النبي : أبشر علياً .. خير صهر على الغبراء

وتتسارع وتيرة الأحداث في زمانٍ تحركت فيه عجلة نامت لقرون .. عجلة التاريخ التي تربسها الجهل والظلام ، هاهي تجري كالبرق والمسلمن اليوم على موعد آخر في قبالة الكفر ، معركة أحد بكل ماحملته من دروس ومناهج في طاعة أولي الأمر ، ويتوقف بولس ليصور مشهداً دموياً تفطر له قلب محمد ..

شحذت خنجراً وقامت إليه .. فر نصله قراباً جميلاً
غاص في هيكل الشهيد وحال الحقد .. في جسم حمزة تمثيلا
أعملت ذئبة النساء بكبد الليث نابا .. لعل تشفي الغليلا

كان ذا حال هند مع جسد الحمزة ، أما قلب محمد :

ذاب قلب النبي حزناً وغامت .. عينيه تشهد المصاب الجليلا
ورثاه محمد بدموع ظل .. جفن الزمان منها بليلا

وكم أخذ فراق الحمزة من قلب النبي ، فهو بالأمس فقد عبيدة في بدر والآن عمه الحمزة في أحد، يالعذابك يارسول الله ..
هنا رفع محمدٌ يده نحو باريه يسأله ألا يأخذ علياً ويذره فرداً :

لاتذرني ياخالق الخلق فرداً .. صن علياً حسامي المسلولا

وينبري عليٌ ليصنع ملحمة أخرى يوم الخندق ، يوم جابه الفتى الصغير وحشاً في ثوب إنسان وأردى الإنسانُ الوحش بضربة سددتها يد السماء :

كبر المسلمون لما رأوه .. جبلاً ماد في خضيب دمائه
ضربة ذكرها يظل فتياً .. بعد موت الزمان بعد فنائه
هابها الضيغمان كسرى وروما .. وتغنى الحادي بها في حدائه

ويأتي اليوم الذي صاح فيه محمد لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، ولمثل غدٍ كهذا لم تنم العيون بل سافرت تمني النفس بتلك الراية وترى فيها عزاً أبدياً ، وأطل الغد بشمسٍ تختالُ على النجوم إذ تسنمت من السماء مكاناً حسدته عليها الأنجم ، وتطاولت الأعناق وأرهف الجميع أسماعهم وكلٌ يمني النفس ، وهتف رسول السماء بصوت السماء أين علي :

فإذا بالرسول يرفع طرفاً .. ويشق السكوت لمعة صارم
قال إني سأعطي لوائي .. رجلاً راح مفرداً في الأوادم
ودعا أحمد علياً وقال .. اليوم يوم اللواء يوم العظائم

وفي خيبر كان لليهود موعدٌ تُمرغ فيه أنوفهم في التراب على يد أبي تراب :

فأتى مرحب أخوه يثير الأرض .. رعباً والو رجع زمازم
غاطساً في حديد درعين .. كانا نسج داود يوم طالوت حاكم
هز في كفه المهند هزاً .. يبعث الشيب في الغراب الداجم
ثم أهوى بضربة لعلي .. فأطار المجن من كف خاطم
وأذا بالأمير يخلع باب الحصن .. ترساً ويتقي ضرب قاصم
سمع الحصن مثل ولولة الزعزاع .. صوتاً والرعد يرفض هازم
فلق العضب هامة سيجتها .. خوذة فوق صخرة وعمائم

وتبحر سفينة الزمان تمخر عباب التاريخ لتصنع للمسلمين دولةً ماقامت إلا بسيف علي ، ويتوقف بولس مراراً ليصلي بلغة العشاق في محراب علي وأهل البيت :
عترة الطهر يا ورد الخمائل .. عطري الجو بالشذا والفضائل
ياشروق الأنوار في غيهب الأزمان .. ظلي على العصور مشاعل
أيها المركب القوي شراعاً .. سر على البحر لو تعالى جحافل
في حفاظ الرحمن تجري ونور .. الروض يلقاك في نعيم الساحل

ولأن للجمال ذروة يأبى الزمان إلا أن تُبلغ فإن لبولس جمالاً في حروفه بلغ الذروة حين توقف مع آلاف المسلمين يُصغي لرسالة السماء على لسان النبي الأكرم صل الله عليه وآله :

عاد من حجة الوداع الأخير .. ولفيف الحجيج موج بحور
لجة خلف لجة كانتشار الغيوم .. صبحاً في الفدفد المغمور
إلى أن يقول :
وإذا بالنبي يرقب شيئاً .. وهو في مثل جمدة المسحور
جاء جبريل قائلاً يا نبـــــــــــــي الله بلغ كلام رب مجير
أنت في عصمة من الناس فانثر .. بينات السماء للجمهور
وأذعها رسالة الله وحياً .. سرمدياً وحجة للعصور
وماكان منه صل الله عليه وآله إلا أن أعلنها للدهور :
أيها الناس إنما الله مولاكم .. ومولاي وناصيري ومجيري
ثم أني وليكم منذ كان الدهر .. طفلاً حتى زوال الدهور
يا إلهي من كنت مولاه حقاً .. فعليٌ مولاه غير نكير
يا إلهي وال الذين يوالون أبــــــن عمي وانصر حليف نصيري
كن عدواً لمن يعاديه واخذل .. كل نكس خاذل شرير
قالها أخذاً بضبع علي .. رافعاً ساعد الهمام الهصور
لاح شعر الإبطين عند اعتناق .. الزند للزند في المقام الشهير
فكأن النبي يرفع بند العـــــــــز عيداً للقائد المنصور
راوياً للزمان فضل علي .. باسطاً للعيون حق الوزير
حيدر زوج فاطم وأبو السبطـــــــين والرمح يوم طعن النحور
وربيب الرسول وبن مربيه .. المُعاني في البذل جهد الفقير
والفقيه العظيم اصوب خلـــــــق الله رأياً لطالب مستنير
وأمير الزهاد قبلاً وبعداً .. حسبه في الطعام قرص شعير

بعدها يسجل النبي شهادة على الأمة ويُحملها أمانة في نقها إن هي أدتها أفلحت وإلا فالهلاك المصير :
سوف ألقاكم على الحوض إذ .. يأتي عليٌ بكير كل بكير
اسأل المؤمنين كيف حفظتم .. عفو آي القرآن أمر سفيري
لاتضلوا واستمسكوا بكتاب الله .. بعدي بعترتي بالأمير

هنا آن للروح العظيمة أن تستريح بعد عذابات السنين ، وآن لمحمد أن ينام ، يُصور بولس مشهد ارتحال آخر رسل الله بشيء من اللوعة تُحسها في الحروف كأنها تقطر دمعاً تودع محمداً وتعزي الزهراء وعلي :

كل حي سوى المهيمن فانٍ .. سنة الله لن ترى تبديلا
يادموعاً من الدماء تلظت .. وتهامت على الخدود شعيلا
مات مابين فاطم وعلي .. يالقطبين يشهدان الأفولا

لم يكن عبثاً قول بولس أن في كل منصف شيعياً ، فالإنصاف وحده دعاه ليقيّم أحداث الساعات الأولى بعد وفاة الرسول الأعظم صل الله عليه وآله ، فنفس محمد كان يبكيه ويجهزه مع ثلة من أوفى الناس ، والآخرون في السقيفة ..

وتوالت تحت السقيفة أحداث .. أثارت كوامناً وميولا

تارة تطلع الزعازع غرباً .. وتهبّ النكباء حيناً قبولاً

وانجلت عن ضياع حق وليّ .. كان إلا عن حزنه مشغولا

كانت حادثة السقيفة انطلاقة أخرى ومنعرجاً هاماً في التاريخ الإسلامي ،جرت على الأمة ما جرت من ويلات ، كان لآل محمد منها النصيب الأوفر ، ولشيعتهم باقي النصيب ، حيل بين علي وتسنم المنصب الإلهي الذي نصت عليه الآية ((إنما وليكم الله ..)) فبإجماع المسلمين أن هذه الآية نزلت في حق علي ، واتخاذها درباً ليس قائد المسير فيه علي ، يبين الحالة التي أعقبت السقيفة ، حالة من إنكار الحق العلوي تأتت من إنكار الحقائق القرآنية التي نصت في غير موضع على إمامة علي ..

ودعت الدنيا أياماً كثيرة ، وعليُ لما يُنصر وحقه لمّا يُرد .. لم يعتزل عليُ الحياة العامة بل سعى لمعايشة الوضع القائم عبر تسديد ما كان الخلفاء يقومون به في إشارة لفضيل علمه الذي زقه إياه رسول الله زقاً ..

على أعتاب منتصف العقد الرابع الهجري سرت في أوصال الأمة رعشةٌ أفضى إليها سوء الحال الذي عم كل أرجاء الدولة بسبب تصرفات الولاة والحكام الذين شهد لهم التاريخ أنهم ألد أعداء الإسلام وأول من أكل على مائدة الخلافة !!

فانتفضت كمن أفاق من غيبوبة ليروي ظمأ السنين ، وماكان إلا علي ..

أيام طوال بين رحيل محمد ومجيء علي ، في حساب التاريخ كانت طويلة أما في حساب الحق فهي لم تكن ، كأنما التاريخ استئنف المسير بعد توقف انحرفت فيه صفحاته ليُدون بيراع آخر ، غير ما أراد محمد ..

كانت تلك السنين كافية جداً لتنبعث في الصدور مواريث الجاهلية ويعتري وجه الإسلام ملامحُ قبيحة ، فالترف الذي عاشه بعض كبار رجالات الدولة المحمدية حطم حقيقة الإسلام في صدور الكثيرين ، فبينما تأن أكباد الفقراء ، كان مروان بن الحكم وأشباهه يسرحون ويمرحون يرتقون صدور العباد ليتربعوا عليها ويأكلوا حتى الشبع وأكثر ..

يصور بولس تلك الحالة بقوله :

وسرت في النفوس موجة إعجاب .. بدنيا تبرجت أعيادا

فتراءى سرابها بحر خصب .. وتراءى أنينها إنشادا

لأنه علي ، وعليٌ قاتل العرب كما وصموه إذ صرّع أشياع الكفر تحركت في الصدور أحقاد بدر وأحد وأحقادٌ أخرى فبدأت مرحلة أخرى من التاريخ كان أبطالها الطلقاء وأبناءهم وأشياع الجاهلية وعتاة بني أمية ..

بدأت أول حروب الحق المحمدي العلوي قبالة الزيغ والضلال عن درب محمد فكانت حرب الجمل ، لم يكن علي يستمرىء أن يبدأ القوم بقتال فوقف كمن يرمي بصره في دنيا الغيب ، أتُرى يفيق هؤلاء ..

وقف القائد الأمير كئيباً .. كوقوف الولهان بالأطلال

ذو الفقار المجيد عضيباً ولكن .. ودّه أن يجول غير مجال

قال لا تبدءوا العدو بحرب .. علّ فيهم إفاقة من ضلال

وإذا بالسهام من ضفة الأعداء .. تهمي تدفق الشلال

حينها فقط قاتلهم علي بسيف يستلهم القوة من نور الحق الذي زرعه النبي في نفس علي وانتصر علي بسيفه الذي لطالما صلى على أجساد المشركين وسجد شكراً لباريه ..

مرت الأحداث والأيام يسابق بعضها الآخر وكان الموعد مع حرب أخرى حاكت فصولها أيدي العناكب في الشام ، لم تكن تهنأ وعليٌ يبني ويصلح ، فأرادت القتال لتسلب الحق من أهله فكانت معركة صفين ، لم تكن صفين حرب بالمعنى العسكري للكلمة فقط بل حرباً كان وقع صداها أكبر من ساحة المعركة ففيها تجسد الحق بكل معانيه في شخص علي والباطل بكل قبائحه في شخص أعدائه ولأن المروءة حكرٌ على الشرفاء كان موقف معسكر الشام في منع معسكر العرق من الماء رسالة للتاريخ ولمن يعي ، عليٌ بمروءته لم يكن ليعامل الأعداء بما فعلوا ، بولس سلامة قرأ الحدث بعين المنصف فرأى الإنصاف سمة الشيعي فصرخ مرة أخرى من كل كيانه إن في كل منصف شيعياً :

فغدا الماء للأمير فإن يعط .. فسمحاً وإن أبى فقمينا

صانه الله أن يحاول نصراً .. بسوى السيف قاضباً مسنوناً

فدعاهم أن اشربوا عفو حرٍ .. قد أعاد الحياة للغادرينا

اشتعل فتيل المعركة وراح عليٌ يقاتل الباطل بسيفٍ لم يقاتل إلا بالحق يوماً .. كان التاريخ ينتظر ساعةً تصل فيها رسالةُ أخرى يتولى هو إبلاغها للأمة ولمن حكّم عقله وضميره ، هوى عمار شهيداً بسيف أمية ، فاستعاد التاريخ مقولة المصطفى ياعمار تقتلك الفئة الباغية .. ودوّن هو الحقيقة وترك الحكم للأجيال ..

كان استشهاد عمار نقطة تحول في المعركة فحينها فقط أعلن علي عن هجوم كاسح هدفه قطع رأس الأفعى ، يصور بولس هذه اللحظات كمن عاينها رأياً وعاشها بكل وجدانه مع علي :

مصرع الشيخ فضّ صبر علي .. فبكى الصاحب الجليل الخدينا

عمم الرأس بالعمامة السوداء .. وكانت إرث الرسول الثمينا

وامتطى صهوة الجواد و نادى .. أين انتم معاشر المؤمنينا

زغرد السيف ذو الفقار فلا .. يبغي قراباً إلا الكلى والوتينا

ورأى الغاصب المهول ابن هند .. صيد فرسان جندهُ يحصدونا

فدعا بالجواد يبغي فراراً .. فأتى عمرو يوقف الهاربينا

حينها انبعث قرنٌ آخر للشيطان يبغي الباطل ، ورُفعت المصافح في حركة كانت تهدف لخلق الفتنة في صفوف جيش علي ، ونجحت أيما نجاح حين انقسم المعسكر العراقي بين من يرى أن رفع الأعداء كتاب الله دعوة للتحكيم منصفة ولابد من إيجابها ، ومن يرى أن الحق مع علي يدور معه حيثما دار ..

فعل المكر في صحاب علي .. فاذا هم كعوسج شائكونا

فبديد الآراء ظلمة ليل .. والنجوم الزهاء حالت دجونا

لجؤوه للصلح ما حيلة الملاّح .. إن تصبح المياه غرينا

كلما هيأ الشراع لسير .. أنبت الوحل حوله تنينا

امتدت فصول المسرحية لتبتدع فصلاً بعنوان التحكيم كان بطلاه بن العاص والأشعري ذاك عن معاوية وذا عن علي وعليٌ مجبر فعلي أراد اختيار عبدالله بن عباس لعلمه بحيلة بن العاص لكن من أجبره على قبول التحكيم أجبره على اختيار أبوموسى الأشعري ليقع فريسة سهله بين ذئب مفترس ..

قلّب بولس صفحات التاريخ وهو يعيش بكل كيانه مع علي يستشعر غربته وهو القائل فقد الأحبة غربة ، كأنما يقصد فقد الحق في هذه الأمة ، سافر بولس في سماء علي أياماً طوال وأناخ راحلته في ((الحلم الأخير))

وتراءى له الرسول كضوء الــ ــفجر يلقي على الرياض سلاماً

غبطة لم ين سواها عليّ .. منذ مات الرسول إلا مناماًَ

واذا أشقت الحياة كريماً .. يستطيب المنى ولو أحلاماً

وشكا للرسول شعباً عقوقاً .. عاد أعمى أو مبصراً يتعامى

كانت الشيطان يتربص بالصلاة في محرابها ، كان يتلوى في المسجد ينتظر قدوم علي :

ذلك الليل لفّ صلاّ وأفعى .. خارجين يشحذان الحساما

مشرقياً يفي صداق قطام .. لعن الله ملجماً وقطاما

وأهوى الغدر بسيفه يسجد على رأس الساجد لله في كل حينه ، وفاض دمع الصلاة حين فاض دم علي وهو في المحراب يناجي حبيبه .. أرأيت محبوباً يستلذ بموتٍ أحلى من الموت بين يدي الحبيب :

يا صلاة الختام في المسجد .. المحزون طيري إلى السماء ضراما

واعدّي له المكان رفيعاً .. وافرشي الورد حوله أكواما

لم ينل في الحياة إلا عذاباً .. فاملئيه هناءة وسلاماً

مسجد كان مهده يوم جاء .. الكون فاستقبل الحطيم اماما

لاح في مكة هلالاً وليداً .. وهوى في العراق بدراً تماما

لم تكن كل بلاغة بولس لتفي حق المشهد حيث علي يرحل ، فواصل علّه يفي حق الدموع فأرسل سلاماً أودعه دموع المحب وشوقه وكل لوعته :

جهش المسجد اليتيم بكاءً .. حين غاب الامام من فقهائه

وبكى الشط والفرات وغاضت .. زقزقات الهزار في غينائه

يا لواء المهاجرين سلاماً .. من روابي لبنان من اندائه

من صفاء الثلج الطهور مقيماً .. من الأعالي بصيفه وشتائه

ومن الآس والورد عبير .. طيب الضفتين من أودائه

إن بولس سلامه بملحمته الخالدة أراد للتاريخ أن يسجل أن القرن العشرين شهد مسيحياً ذاب عشقاً في علي فطّوع كل بيانه ليكتب حرفاً في علي ، كتب حرفه وأشهد السماء على ذلك .. يا سماء اشهدي أنني ذكرت عليا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق