اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو
ورق الغار ..تمزق الذات بالهموم الإنسانية والاعتزاز بأمجاد الوطن

ورق الغار
تمزق الذات بالهموم الإنسانية والاعتزاز بأمجاد الوطن
فضاءات نيوز / بقلم – مالكة عسال
1ـــ ما قبل التوطئة
في إطار إهداء رائع وصلتني من الأديبة والروائية المرموقة سمية قرفادي رواية أنيقة تحت عنوان (( ورق الغار ))، تتمدد على 326 صفحة من الحجم المتوسط، تحمل على أجنحتها ثمارا ناضجة وحقولا تتوهج بنضارة الحرف، وعبير الكلمة من محتوى شامخ بين دفتين إحداهما تتضمن لوحة عبارة عن صورة واقعية لشجر ورق الغار، يتوسطها العنوان واسم الروائية، والأخرى اكتفت بمقطع من الرواية.. طبعت الرواية في نسختها الأولى عن مطبعة الحمامة /تطوان ،بإهداء جميل إلى فلدة كبدها نوارة الزمن/ الملاذ كلما ضاقت النفس .. وبهذا المنجز الثقافي تكون الروائية المغربية سمية قرفادي قد كسرت الفكرة الغامضة والصورة الجاحدة التي تتبجح بها أذهان بعض العقول الرجعية حول المرأة (( ماكرة وغادرة وجاهلة جهلا طبيعيا وهي إنسان غير كامل لاعقل لها أو منقوصة العقل، ولا أمانة لها ولا فضيلة)) ص 87 من كتاب ((السر د النسوي العربي /من حبكة الحدث إلى حبكة الشخصية)) للدكتور عبد الرحيم وهاب
2ـــ محتوى الرواية ومواضيعها المتعددة
تتحدث الرواية عن شخصية عبد الله الصمد بطل الرواية، متزوج من منيرة وله معها ذكور وإناث، نعى الموت زوجته ليتزوج بطبيبة إسبانية ثم يرحل إلى إسبانيا، ويبقى الأطفال تحت كنف سجدة ابنة أخيه، وتستمر الأحداث بتنوع تيمي مذهل لدى كاتبتنا، طارقة عدة أبواب تصب في ما هو أسري وطفولي، وما تزخر بها التقاليد والأعراف من عادات شعبية تقليدية، وما تتلبد به العقول من الشعوذة ، معرجة على ما هو اجتماعي وما تقاسيه شريحة واسعة من البؤس والفقر والتسول حد الاقتتات من القمامات ؛ ضاربة في عمق التاريخ وجذور الجغرافية، ملامسة ما هو طبيعي وبيئي، مخلخلة ما هو ديني، واقفة على ما هو إنساني وضحايا الحروب والتيارات الدينية والإرهابية؛ لقد طافت أديبتنا في جيوب المجتمع بكل أطيافه تلتقط المشاهد المبكية والمقززة والمرعبة والفاسدة، لتُطلع قراءها على نكسته وعيوبه من فساد واغتصاب، مستعرضة بعضا من ضحايا الذئاب البشرية بجرأة؛ أفكار شتى على لسان أديبتنا تتزاحم لتخرج دفعة واحدة في مواضيع ثرة ومتنوعة .. وهذا لن يتأتى إلا بسعة الاطلاع على مختلف فروع الثقافة …ومن ضمن الموضوعات المطروحة:
ـــ الوطنية والتعلق بمقدساته وثوابته
كل إنسان مهووس ببلده وحب انتمائه إليه واعتزازه به حد الذوبان، يتوحد معه بالروح والتضحيات للسير به نحو الأمام، وبحكم الغيرة الشديدة على وطنها فأديبتنا سمية قرفادي مهووسة بالوطنية حد النخاع، تتعلق بوطنها الحبيب بكل إخلاص ووفاء، شغوفة بالفخر بمقدساته لما له من استقرار سياسي وأمن قومي، فاحترامها لثوابته يربي الإنسان على الاستقامة في السلوك، ليعيش الجميع تحت لواء العدل، فتستعرض لنا أعظم طرق الجهاد السلمية لطرد الاستعمار الإسباني بتنظيم مسيرة سلمية لاسترجاع الحق دون قتل أو إراقة دماء، مسيرة مذهلة علت رايتها أمام العالم بشموخ، والتي سجلت بماء الذهب على صفحات التاريخ، بل ويصح أن تقتاد به الدول المستَعمَرة لحصولها على الحرية والاستقلال، ولا يكفيها الكاتبة التحدث عن المسيرة، بل وتتطرق إلى كيفية الانخراط فيها طواعية وعن حب دون إجبار أو توصية من أحد، (( هكذا سجلت نفسي ضمن المكاتب لاستقبال طلبات المنخرطين للمشاركة في ملحمة المسيرة الخضراء )) ص157 ، وهذا تعبير صريح على تعلق الكاتبة الشديد بالوطن، واللهفة والتطلع إلى تحرير صحرائه من الاستعمار الغاشم..
ـــ التوغل في جيوب المجتمع لاقتفاء أثر المعاناة
فعلا لما تنتصب الهموم وتجن لياليها لن نستسيغ الطعام، ولا يحلو لنا مرقد، ولا نستعذب الحديث مع أي كان، بل نخلو إلى زاوية قصية فارغة ندقق فيها بإمعان ما ألم بنا مستدعين الأسباب باحثين عن مخرج سليم لها.. ((أتحسس الدهاليز السرية لقلبي ومخابئه التي يحنط فيها فرحي الشهيد)) ص6، والأحزان مقبلة من عدة عوامل متنوعة متشابكة، منها ما هو واقعي وإنساني وبيئي ومجتمعي تلخصت في غلاء الأسعار، عطالة الشباب بشهاداتهم العليا، هوس الركض وراء الجانب المادي بالسلب والاختلاس أو القتل حتى، سيطرة العدوانية والأنانية على النفوس، سرطان الأطماع الذي توغل في الضمائر قاتلا كل ما هو جميل، سيادة (باك صاحبي) والزبونية والصداقة في كل مجالات دون حسيب أو رقيب، غياب الروابط الإنسانية بين البشر، فهذه العناصر على اختلافها شحذت سيف الألم في الذات الشاعرة، فأسقطتها صريعة التغيير لتعيش صراعا قويا وتمزقا نفسيا، بين المحاولة وغياب الإمكانات لتفعيل دورها كمثقفة تسعى إلى أن يعيش الإنسان عيشا كريما بكافة الحقوق، فكان التغيير بصرخة مدوية أمام تأزم الواقع بألغازه المبهمة التي ليس لها حلول، فتوجهت إلى الطبيعة كبلسم لتطهير الداخل، مستندة في ذلك إلى القرآن الكريم ربيع القلوب، تتلوا ما تيسر من الآيات الكريمة في التحام صوفي روحاني مع رب الكون، متضرعة إليه أن يرفع عليها هذا الهم ويبدد كربها …
ـــ سعير العدوانية وتفشي الأحقاد
يُزعِج الأديبة سمية قرفادي غيابُ القيم النبيلة كالمودة والرأفة والحب والتسامح وفعل الخير والسلوك الطيب والحديث اللبق والخطاب المقنع والإخلاص في التعامل، وتحُل على أنقاضها خصال غير إنسانية تتنوع ما بين الأحقاد والغل والمكر والخداع والغش والأطماع والأنانية والشح، يتفنن بعضها في التقتيل والعمليات الإرهابية والاغتيال، طرق وحشية تحصد الأرواح غدرا فيذهب ضحيتها أبرياء لم يرتكبوا أدنى جرم (( ولماذا يحترفون الجريمة بدهس الأبرياء )) ص204، سلوك عدواني تمتعض منه أديبتنا وترفضه جملة وتفصيلا، لأنه لا يخلف إلا الشرخ العميق بين الإنسان والإنسان حين يقضي على روابط المحبة والتضامن.. ولما تندلع شرارة الوطنية أكثر وتحترق بلظى حب الإنسان، تنطلق أديبتنا لتبحث في جوف الأسئلة القارعة للجمجمة عن جواب حول الثروة، وخيرات الوطن الدافقة من بحرين كبيرين وأبناء جلدتها يموتون جوعا وفقرا..
ـــ فكرة التمييز بين الذكر والأنثى المتحجرة وسيطرة رب الأسرة
فمن الخصال الإنسانية غير المحمودة، ترحل بنا الأديبة سمية قرفادي لتهشم بسيف قلمها أعناق بعض العقول الرجعية، وما علق بها من ذؤابات التمييز بتفضيل الذكر على الأنثى، الشيء الذي كان في الماضي وبالضبط في البوادي، باعتبار الابن خلفاً للأب حيث سيقوم مقامه في رعاية الأسرة وتقلُّد أعمال الزراعة والرعي وما شابه ذلك، بينما الأنثى ستتزوج ويبقى مكانها شاغرا في المنزل ( الذكر عمارت الدار والبنت الدار الخالية)، مغيبين تماما حنو الفتاة القوي وتعلقها الشديد بحبها الكبير للوالدين والإخوة، إذ تجدها في الصف الأول إذا حصل مكروه ما، تضحي با ستماتة لترفع الضرر بأية وسيلة كانت ((أمه فضلته على أخواته ظاهرة غريبة ، ينال الذكر أضعاف ما تناله الأنثى )) ص 28…فالروائية ترفض فكرة التمييز بين الذكر والأنثى على اعتبار أنهما وحدة متكاملة يكمل الطرفان بعضهما البعض، على حد قول المفكرة الفيلسوفة الوجودية والكاتبة الفرنسية ))سيمون دي بوفوار simone de beauvoir1908/1986)) (( من الضروري أن يثبت الرجال و النساء أخويتهم بشكل قاطع ))ص313 / من كتاب نشتة إعداد محمد الشرايبي.. كما ترفض تسلط الأب وهيمنته على أفراد الأسرة وما يتصف به من سيادة وسيطرة بقمع لامحدود، بوصفه رمح الأسرة وربها وقائدها الآمر والناهي في كل كبيرة وصغيرة، وعلى باقي الأعضاء السمع والطاعة والامتثال للأوامر وتنفيذها حسب رغبته هو وليس بالاتفاق (( هات ملابسي.. منامتي القطنية.. أليس القطن راشفا للعرق أر حم بكثير منكم)) ص 83 والمرأة تلبي خانعة مستسلمة وهي تؤدي مناسكه… واضعة الإصبع على البون الشاسع بين شخصية قوية تتمتع بالجبروت والطغيان، وشخصية خانعة مستسلمة مسلوبة الإرادة.. ثم ترحل بنا الروائية سمية قرفادي على أجنحة التذكر من جو الأب المتسلط إلى الرفقة الطيبة مع عائلة يهودية والتي هجرت قصرا إلى إسرائيل، و تركت أثرا طيبا في النفوس لتحط الرحال على الفكر السائد بعقل خرافي بعيد عن المنطق، والذي يكرس الشعوذة وحب ولادة الذكور…
ـــ الزوايا والشعوذة والعلاج بالغيبيات
لقد تعمقت أديبتنا في الشعوذة وأركانها وما تلحقه من أذى بالإنسان عن طريق العلاج بالعقل الخرافي غير الواعي، الذي يلتحف الطقوس الماورائية والغيبيات التي لا علاقة لها بالواقع، ولا تقدم أي علاج طبي بصيغة منطقية قائمة على التحليل والاختبار وتشخيص المرض، مما يؤدي أحيانا إلى إلحاق الضرر بالمريض أو الحتف(( ألم تسمع بالراقي الذي توفيت على يديه عروس …. بعد أن عنفها بقوة )) ص:60 فهنا تبين الأديبة سمية قرفادي بساطة التفكير، والذهن الممتلئ بالشعوذة ورؤية الأشياء بطقوس غيبية، وحل معضلتها بطرق مغلوطة تبتعد تماما عما هو علمي منطقي (( فالعروسان معرضان لكل أنواع السحر….علينا بالبخور لطرد كل جني مارد )) ص149 فأديبتنا تتمرد على بعض الأعراف والتقاليد التي تصب في ما هو غيبي خرافي غير منطقي، وتسلط الضوء على بعض الزوايا وما تعج به من أفكار ضلالية تكرس الجمود العقلي وتأخر الفكر، والتي تتمثل في بعض العيادات الطبية، وطرق العلاج البدائية بأساليب خرافية تضر أكثر مما تنفع لإصلاح أعطاب الناس النفسية والعضوية.. وهذه المواضيع التي أفاضت أحبار أديبتنا لم تأتها على طبق من ذهب، بل منها ما سمعت به من المحيط، أو عاينت بشكل مباشر تجارب قاسية تضرّرَ فيها البعض؛ لذا تشارك قراءها كمثقفة منضمة إلى قائمة ذوي الكلمة الحرة، الذين لا يخشون في قول الحق ورفع الستار عن الخلل لومة لائم من أجل تعديله أو إصلاحه… فأديبتنا سمية قرفادي ملأت جعبتها بعدة أفكار منطقية، فأصبحت ترفض الواقع الذي مازال يركع للغيبي والخرافي غير المنطقي، و تتمرد عليه رافعة صرختها العالية..
ـــ الجانب الطبي والبيئي لسلامة الإنسان
تشهر أديبتنا عينها المجهرية في تأملها البعيد تلتقط ما هو نفسي واجتماعي وطبي يفيد الإنسان، وبالتالي تتخذه بلسما لجراحها الغائرة، فتارة فيلسوفة وأخرى واعظة، وثالثة أستاذة ، ورابعة طبيبة تنصح بما يفيد الجسم، وتدعو إلى تجنب ما يضر به، لا تدخر جهدا في تقديم معلوماتها المفيدة ((التنوع بتناول الكثير من الحبوب الخضار الفاكهة والأغذية النباتية لأنها تحتوي على القليل من السعرات الحرارية، وكثير من لألياف والفيتامنيات )) ص73، بل لا تفوتها معلومة أشعة الشمس وما لها من فوائد على صحة العظام (( ستنعم بأشعة الشمس اللافحة، ستمنحها صلابة لعظامها.. ستقهر داء هشاشة العظام)) ص 147، وكلنا نعرف ما يلعبه فيتامين (د) الذي تفرزه أشعة الشمس على العظام؛ كما تنصح بتناول بعض الخضر لما لها من فوائد طاقية وبانية ووقائية.. والمتداول أن مثل هذه النصائح غالبا ما ينصح بها طبيب التغذية ، ويلح عليها من أجل سلامة البدن والعقل وصحتهما، وهذا يدل بالكاد على أن أديبتنا سمية لها اطلاع واسع في الميدان الطبي، إما عن طريق قراءات كتب مختصة أو من تجارب الحياة ..ولا تكتفي الأديبة بالجانب الطبي وحده، بل لتكتمل الصحة لابد من سلامة البيئة وخلوها من التلوث تمشيا مع نظر العبارة المدوية التي تقر أن “الجسم السليم في البيئة السليمة” فأديبتنا سمية قرفادي تكشف الغطاء بجرأة تامة عن البيئة بمدينة القنيطرة، وما تعانيه ساكنتها من تلوث يهدد الثروة الحيوانية، ويضر بالمحاصيل الزراعية والمنتوجات وما يلحقه بالإنسان من أذى، من حيث الإصابات بالحساسية والربو والطفوح الجلدية، والأمراض المزمنة مثل السعال وانتشار الحشرات المضرة(( نعم إنه غبار معمل توليد الطاقة الكهربائية، جعل ساكنة مدينة القنيطرة مهددة، بل تعاني من علل وأمراض مزمنة ))ص198 .. استشاطت أديبتنا غضبا وغيرة على ما يتعرض له السكان من آفات مرضية وكوارث مضرة بالصحة، الشيء الذي لا ينفع معه الطب.. وهذه الطامة لا تتفرد بها مدينة القنيطرة فقط، بل جل المدن المغربية خاصة الكبرى، بغياب جمالية الذوق التي تتجلى في الوعي بالمحافظة على نظافة الشوارع، ونشر ثقافة تنميقها بزراعة الورد والأزهار في أصُصٍ ومزهريات..
ـــ الجغرافية البشرية واختلاف الأجناس
ومن التنوع البيئي تقفز أديبتنا إلى تنوع الأجناس الإنسانية، فتناولت الكاتبة سمية قرفادي اختلاف الأجناس بدقة، لتُطلِع قراءها على تمازج الأعراق المختلفة الإفريقية والأمازيغية والأندلسية والصحراوية، كأنها بذلك تخبرنا أن الإنسان إنسان مهما كانت أصوله وأعراقه، وجميع البشر على الكرة الأرضية يتحدون في المشاعر والإحساس والدم الذي يجري في العروق (( كما المغاربة الذين شهدوا التمازج الثقافي لتعدد المناهل بين الجذرين الإفريقي والعربي من خلال العربية / الأمازيغية / الأندلسية الصحراوية)) ص108، ولهم على اختلاف شرائحهم نفس الحقوق في العيش الكريم، وتكافؤ الفرص في الصحة والتعليم وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية، أي متساوون في الحقوق والواجبات في الدولة الواحدة ومن دولة إلى أخرى أمام القانون والمبادئ الإنسانية.. نظرة عادلة توثبت من تشبع كاتبتنا بتعاليم ديننا الحنيف، ومبادئ حقوق الإنسان، والتي تنص عليها المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ((يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق.)) حقوق يتمتع بها الجميع مهما كانت جنسيتهم أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو اللوني ، أو توجههم الديني، أولغتهم التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش..
تطعيم السرد بما هو تاريخي/ جغرافي
تتدفق الأفكار متداخلة أحيانا مكملة لبعضها أحيانا أخرى بتنوع هائل، تصف بأدق التفاصيل الأحداث والوقائع، فأديبتنا كالفراشة تتنقل بين حدائق الأحداث منها ما هو معيش، وما هو تذكُّر (( يا لحزني كيف يأتيني طيفك يحمل فراشة ذكراك)) ص44 ، وما هو مُطّلع عليه في الكتب (( لإيواء المسلمين المضطهدين الفارين بعقيدتهم من التعميد)) ص 45، واضعة إصبعها بشدة على ظاهرة الحقد والضغينة التي يكنها الإسبان للمسلمين حين يقللون من شأن العرب بمس كرامتهم، راصدة أمثلة حية من الواقع، متسائلة عن استمرار الحقد رغم مرور أزيد من ثمانية قرون، معززة ذلك بحديث شريف الذي يحث فيه رسول الله على عدم الكره والمقاطعة ليكونوا عباد الله؛ وهذه بالكاد قمة غيرة المبدعة على أبناء جلدتها وما تمتاز به من النضج والوعي الفكري /الأدبي / الإنساني، وتتابع سير ها لتعرج على ما هو جغرافي واصفة الأمكنة الجغرافية وما لحقها من تغيير (( هناك تعرفنا على كل الآثار الخالدة، على الكنيسة الإسبانية التي صارت مسجدا )) نفس الصفحة، لتستعرض لمسة جغرافية عن أماكن لها حيز جغرافي، فتصفها مدققة في التفاصيل والجزئيات لبعض معالم إسبانيا وما تتصف بها من جمال، مما يجعل تصور القارئ يحولها إلى أشياء واقعية وكأنه شاهدها بنفسه.. براعة الأديبة الفنية في تصوير الأشياء باحترافية كبرى لَبِنة أساسية في إثراء الرواية، وجلب اهتمام المتلقي واستمالته للإقبال عليها حتى مَتَمّها .. فكما رقصت أديبتنا على حبل ما هو جغرافي لم يفتها أن ترقص على حبل ما هو تاريخي، حيث استنهضت فتح إسبانيا على يد طارق بن زياد كما في السيَر والكتب التاريخية ؛ ((هكذا منذ الفتح على يد طارق بن زياد 92ه حتى سقوط مملكة غرناطة)) ص124 ولا يخفى على أحد أن هذا التاريخ درسناه في مادة الاجتماعيات على يد أساتذتنا الأجلاء.. وتقول أيضا ((أليست الأراضي الإيبيرية التي فتحها المسلمون سابقا، والتي كانت تشكل ولاية من ولايات الدولة الأموية، زمن الخليفة الوليد بن عبد الملك)) ص146 .. تتحدث الروائية على وجه التحديد بلسان المؤرخ حول الأراضي التي فتحها المسلمون في عهد الدولة الأموية كمعلومات تاريخية لمن يجهلها، أو كرصيد إضافي إلى ما يكتنزه ذهن القارئ.. ((إن هذه النصوص تزود القارئ بمعرفة تاريخية تجسد بعدها التناصي، كما تعيد كتابة المعطيات التاريخية في إطار بنية تراثية سردية)) تقول المبدعة حليمة وازيدي في كتابها ((سيميائيات السرد الروائي/ من السرد إلى الأهواء )) ص 150… فكاتبتنا رقصت على الوترين باحترافية كبرى واضعة كفها اليمنى على الإسهاب الجغرافي بأدق الوصف للأمكنة، والكف اليسرى على السرد التاريخي بتعاقب الأحداث وتزامن بعضها.. والغرض من استعراض التاريخ والجغرافية هنا ليس بمد القارئ بمعلومات فحسب، فتلك تتدفق بها كتب التاريخ والجغرافية والصحف والمجلات والمعلوميات التي تقول لها كن فيكون.. وإنما لاستنهاض صفحات العرب المليئة بالبسالة والبطولات، اعتزازا وفخرا بأمجادهم وما أسسوه وشيدوه من منشآت ومرافق، مازالت منارتها على هضبة التاريخ تشع إلى اليوم، والتي يحق أن تدَرّس للنشء ليقتادوا بعظمتهم وقوة بأسهم ..
ـــ الجانب الأسطوري والخرافي في الرواية
بالإضافة إلى السرد التاريخي والجغرافي لم يفت كاتبتنا أن تعرج على محطة الأسطورة، والكل يدرك أن الأسطورة لصيقة بما هو خيالي خرافي، لتفسير الظواهر الكونية بالتوجه نحو إله يتمتع بقوى مطلقة تكفل الحماية والحياة، وإن كانت أحاديث باطلة ووقائعها كاذبة تستند على مسلمات غيبية، فقد رأت كاتبتنا في توظيفها تفردا في التجربة وإغناء لها، خاصة وأنها مستوحاة من صلب البيئة العربية بما تحمله من عادات وموروثات فكرية(( التي قدم فيها إله أحلامها موروفيوس من وراء حجاب وحدتنا )) ص 127 ــــ // إله الأحلام في الأساطير الإغريقية وهو أحد أبناء هيبنوس إله النوم كان يعتقد أنه يأخذ شكلاً آدميًا ويظهر للناس في نومهم// لتمنح القوة لسردها والمتانة لأسلوبها بشحنهما برموز أسطورية ما يحفز القارئ إلى الإقبال على القراءة وفتح الشهية لالتهام محتوى الرواية بمتعة لا تقاوم، والتنويع الأسطوري والتاريخي والجغرافي وما قارب ذلك من جوانب فنية، ينم على أن أديبتنا موسوعة من المعارف، وجعبتها ممتلئة بالكثير، والأفكار تتزاحم لتخرج سيلا دافقا لا ينضب وهذا ما جعل رواية(( ورق الغار)) للكاتبة سمية قرفادي تتفرد بها على غيرها من جيلها ..
ـــ الدين ودين التفرقة والإرهاب
تعدد المواضيع أثرى الرواية فزخرت بمعارف شتى مختلفة، نهلتها كاتبتنا من ينابيع معرفية متعددة المشارب، جمعت بين ما هو تاريخي وجغرافي وفلسفي وأسطوري وشعبي وحضاري وعربي وأعجمي وإثني؛ لتفصل في الجانب الديني مسددة عدستها على الشق الإرهابي، الذي تنصّلَ من طقوس الدين الحقة الداعية إلى الرحمة والتسامح والتعاون والقيم النبيلة على اختلافها، ومناهج الدين الهادفة إلى حب الآخر والتسامح والتآخي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى الالتحام والتوحد في صفوف متراصة كم يقول رسول الله في حديثه ((لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى)) ليتحول إلى إرهاب من جهلة أميين تلبسوا بالغدر والانتقام فتفننوا في القتل البشع (( يا ويلي على مسلمي وعرب الحاضر ..سلطويون.. جاحدون ..متطرفون.. إرهابيون )) ص121، الشيء الذي لم يوص به الإسلام ولا نبَّهَ إليه الدين الحق كما جاء به القرآن .. دين متطرف زائغ عن طريق الصواب والأخلاق الفضيلة.. ولا يفوتها أن تنتقد بشدة الشرخ الحاصل في الدين بين المتعصبين السنيين والمناصرين للشيعيين، كل فرقة لها طقوسها وما تكنه من عداء تجاه الأخرى (( فاجأني ذات ليلة بموقفه المتعصب للسنة )) ص 140.. (( آه آه إني بايعت عليا ..إني بايعت عليا )) نفس الصفحة.. لتبين الفرق بين الشيعة والسنيين وما بينهما من بون شاسع من حيث التوجه والتعصب الفكري، لن يؤديا بهما إلا إلى التفرقة والانشقاق رغم أنهما تحت راية الإسلام، وتنتقل من الحيز الضيق في الدين لتتطرق إلى العلاقة بين الديانات السماوية : المسيحية والإسلامية واليهودية، وما تتواشج به من قواسم مشتركة، لتخلص إلى أن المسيحية والإسلام يتعايشان نظرا لبعض الطقوس المشتركة بينهما (( فالمسيحيون والمسلمون يشتركون في الإيمان والتعايش الديني ))ص162 وللتأكيد ضربت مثالا حيا من التاريخ وهو هروب المسلمين من بطش قريش إلى النجاشي ملك الحبشة النصراني، والمكوث في مأمنه سبع سنين رغم أن الأديان كلها نزلت رحمة للعالمين ، (( فالرحمة مصدر الأديان كلها )) ص 172.. وما المذهبية والتشدد الطائفي والتيارات المتناسلة إلا من اختلاق السياسات السلطوية للاستحواذ على الثروات، وتحقيق غرض مصلحي مادي…من هذا المنطلق ((التعامل مع الأديان كوحدة في تنوع تحتاج من العارف تجنب التحليل اللغوي المباشر أو المفاهيمي المُمَنطق بل اللجوء إلى تحليل رمزي لفهم التمثلات المتضمنة في الأديان))ص 82 من كتاب محمد مصطفى القباج (( حوار الثقافات / وحقوق الإنسان في زمن العولمة
3ـــ الجانب الفني في اللغة وروعة الأسلوب
وحتى تكتمل الرواية مبنى ومعنى وتكون صيدا ثمينا لقناصيها من القراء، بذلت شاعرتنا قصارى جهودها من حيث اقتناء المعجم وتخيّر الألفاظ وتركيبها في عقد ماسي يلمع بألوان الطيف، فعرفت كيف تتقن سبكه بعناية جذابة رابطة في ما بين المفردات بعلاقات في أسلوب شاعري ساحر، شكّلَ لوحات زاهية بألوان خلابة في حلة أنيقة من السحر والجمال، وكأنها مرسومة بريشة فنان من حيث طريقة البناء والتسلسل والصياغة ولبوسه المتعدد، الموشح بما هو مجازي/ إيحائي في صور شعرية تتراقص كبتلات أزهار ملونة، ((هكذا انقطع عصفور قلبي عن التغريد، صار ينقر الأسف من تدي الزمن))ص142 ، مستأصلة الخيط الرابط بين السرد والشعر ليتداخلا دون روابط تميز هذا عن ذاك، بحيث تجد السرد في الشعر والعكس صحيح، إيمانا منها أن اللغة مقوم من مقومات الهوية المغربية العريقة ــــ (( وأنها كائن ينمو مع النمو التدريجي للواقع ولصيرورة التاريخ )) على حد قول الدكتور مصطفى شميعة ص94 من كتاب (اللغة العربية وسؤال الهوية)ـــ ولتخرج اللغة في حلة أرقى وأروع طعمتها بآيات من القرآن الكريم، (( وأيوب إذا نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين )) ص 287…ليس لكي تتظاهر بأنها ورعة، أو لاستعمال الذكر الحكيم لغرض مصلحي، وإنما لتزيد الأسلوب متانة وإقناعا وتنوعا، ومن هذا الاختلاف والتنوع المعرفيين غرفت أديبتنا مادتَها الدسمة التي بين أيدينا ..
ــــ إقحام القصص والأمثال الشعبية في الرواية
أية أمة لا تخلو من الحكم والأمثال الشعبية، فالأمثال خلاصة تجارب الأجداد والآباء، مشحونة بالعديد من القيم منها الواعظة والمنبهة والساخرة، لها مغزى عميق ومعنى هادف، وليست مُجرّد كلمات يتداولها البعض من فراغ للّمز أو الغمز أو لتصويب خطأ ما، وإنما هي تمثيل حي لأفكار بعض الشعوب، وتبقى خالدة لما تتداولها الأجيال عبر العصور كموروث ثقافي، وأديبتنا تستسقى الأمثال في الغالب من أحداث مطابقة بحكم تشبعها بثقافة متنوعة خلقت منها موسوعة؛ فقد رصعت روايتها ببعض الأمثال الشعبية الخالدة المقتبسة من الواقع استهزاء من سلوك بعض الأفراد وتصرفاتهم (( الذئب يبقى ذئبا وإن شرب الحليب وأكل الزبيب)) ص150 والمقصود أن الإنسان الغادر الذي يملك قلبا ماكرا ومشاعر تنطوي على الغدر، لن تتغير طباعه مهما قدم له المرء من خير، أي(( يأكل الغلة وينسى الملة)) بمفهوم آخر،(( أو الخير ماعندو بو )) بالعامية المغربية.. وغالبا ما يوجه المثل للشخص الجاحد الذي لا يعترف بالجميل؛ بالإضافة إلى الأمثال الشعبية تُقحِم أديبتنا بفنية عالية بعضَ القصص في جسد الرواية مقتبسة من القرآن أو من المحكيات الشعبية أو من الأحاديث اليومية، ((لم يغب النسر طويلا ، ثم طلب من نبي الله أن يتبعه)) ص215 ..رغبة في اغتناء الرواية بصفوة من المعاني وزبدة من الأفكار، وذلك ليس عبثا أو حشوا للزيادة في حجم الرواية، وإنما ليتفرد العمل بأفكار جديدة ومعلومات قيمة يتزود بها القارئ للمتعة وتوسيع المعلومات، وهذا يبين بالكاد أن روائيتنا سمية قرفادي لها اطلاع واسع على الثقافة بأوسع مراميها واختلاف مشاربها وشمولية قصدها، وأن جعبتها ممتلئة حد الرُّعاف …
ـــ الوصف للمشاهد بأدق التفاصيل وكأنها مُصوَّرة
((خلجات الإنسان الداخلية صورة لا يمكن أن يحملها إلا إنسان صاحب نظرة كبرى إلى العالم المحيط به، إنسان يحمل على ظهره آلام البشر ويصعد بها بعيدا إلى قمة جبل يقع في أرض سماوية ليرمي بها من هناك إلى لا مكان)) ص 14 نور الدين محقق كتاب (( القول الشعري واللغة الرمزية ))، فهذه الفقرة تنطبق تماما على روائيتنا سمية قرفادي فهي لم تكتب الرواية (( ورق الغار )) لترصف المفردات تزويقا للغة، أو لتتباهى بها على كُتّاب الرواية، وإنما انطلاقا من مطارق الهمومة الإنسانية التي لا تتوقف عن الدق في الصدر، لتفرغ صندوق الداخل الممتلئ بالهموم الإنسانية وتنزع عنها ذاك الثقل الجاثم، ولم يكفها التعبير وتشخيص الوقائع والأحداث، بل تشد بتلابيب مشهد ما لا لتَمُرّ عليه مرور الكرام وإنما لتوجه له بوصلتها بتقنية عالية ووصف دقيق بالتفاصيل لأدق دقائق الأشياء وجزيئياتها، حتى تشبع مهجة القارئ (( تلك الممرضة السمراء ذات العينين الحالمتين بشامات شاردات على عنقها )) ص49 كما وقفت على مراسم العرس الإسباني لزواج عبد الصمد ب (استيبالي) الإسبانية بوصف شامل لفقرات العرس، مستعرضة الطرق والأعراف الإسبانية، حيث في غمرة الاحتفال تتراءى له صورة زوجته منيرة وما كان يربطه بها من حب ووفاء إخلاص، فحين تمعن النظر في دقة الوصف بمشاعرك وذهنك تحس وكأنك طرفٌ في الموضوع، أو أنك عاينته من بدايته حتى نهايته، وهذا يدل بالكاد على حنكة الروائية في نهج هذا الأسلوب ومِراسِها..
على سبيل الختم
من خلال ما تقدم يبدو أن الرواية ثرة بمواضيع متنوعة أساسية وأخرى فرعية لا يمكن حصرها، شملت ما هو إنساني وبيئي وطبي وخرافي وتاريخي وجغرافي في لغة مصقولة، زاد من متنها تطريزها بما هو شعري، مما جعل السرد في قالب الشعر والشعر يتوثب من بين سطور السرد، مما يبين أن الروائية لملمت ثقافتها مما هو إنساني وشعبي وخرافي وأسطوري وتاريخي وديني وجغرافي وخيالي وواقعي، ساهمت فيها أسفار أو اطلاع على تجارب أخرى، أو القصص والحكايات والأمثال الشعبية، أو ما هو واقعي ومعيش، الشيء الذي يفسح المجال للقارئ ليستمتع بالمستويات المعرفية واللغوية والفنية المتعددة ، أحكمتها بصياغة لغوية (( راقية ومؤثرة سواء للإقناع أو الإبداع )) على حد قول محمد عدناني ص50 من كتاب (إشكالية التجريب ومستويات الإبداع) بذلك قد تكون الروائية سمية قرفادي قد شيدت قلعتها الروائية الموغلة في العمق الذاتي للإنسان ، ما يفتح لنا باب القول أنها استنهضت الواقع اليومي الكلي للإنسان المغربي والعربي في صراعاته مع همومه وقضاياه ..
” المصادر ”
ـــ رواية (( ورق الغار )) للأديبة المغربية سمية قرفادي
ـــ (السر د النسوي العربي /من حبكة الحدث إلى حبكة الشخصية) للدكتور عبد الرحيم وهاب
ــــ قولة/ للمفكرة الفيلسوفة الوجودية والكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار simone de beauvoir1908/1986))من كتاب (نشتة) إعداد محمد الشرايبي
ــــ (سيميائيات السرد الروائي/ من السرد إلى الأهواء ) المبدعة حليمة وازيدي
ــــ ( حوار الثقافات / وحقوق الإنسان في زمن العولمة) الدكتور محمد مصطفى القباج
ـــ (اللغة العربية وسؤال الهوية) الدكتور مصطفى شميعة
ـــ ( القول الشعري واللغة الرمزية )/ الدكتور نور الدين محقق
ـــ (إشكالية التجريب ومستويات الإبداع) الدكتور محمد عدناني
ـــ // إله الأحلام في الأساطير الإغريقية هو أحد أبناء هيبنوس إله النوم كان يُعتَقد أنه يأخذ شكلاً آدميًا ويظهر للناس في نومهم
ـــ أمثلة وأقوال بالدارجة المغربية .