فضاءات نيوز – بقلم – دنيا صاحب – العراق
تمهيد: سر رحلة نبي الله موسى ع إلى مجمع البحرين
“وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا” (الكهف: 60).
في سياق العرفان الإسلامي، يُنظر إلى رحلة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام إلى مجمع البحرين على أنها رحلة روحية تتجاوز حدود الإدراك للحواس الخمس و مدارك العقل الظاهري المحدود لترتقي إلى أفق الكشف والشهود العرفاني . فـ”البحران” في هذا المقام رمزان : أحدهما بحر الشريعة، حيث الظاهر من الأحكام و منهاج الشريعة الإسلامية، والآخر بحر الحقيقة هو مصدر العلوم و الحكمة والمعارف الالهية، حيث يلتقيان في برزخ وحدة الوجود وهو الحد الفاصل بين نظامين الشريعة والحقيقة، وكذلك الحد الفاصل بين العالم الأرضي الظاهر وعالم الملكوت المخفي خارج مدار الزمان و متسع المكان، خلقه الله سبحانه وتعالى منذ الأزل . بحر الشريعة وبحر الحقيقة التقائهما في “مجمع البحرين” يعكس مرأة الحق بالمكاشفة والشهود لمعرفة العلم والحكمة الإلهية بين النقيضين إيجابياً أو سلبياً، هو مجمعُ الوحدة بين حقيقة الأمر الإلهي ظاهرة وباطنه وبين العلم المكتسب المحدود والعلم اللدني الهبة الشامل الكامل ليس له حدود، و بين الإدراك العقلي المحدود وتجلي الفيض الإلهي على قلب العبد الرباني الذي يتسع لتلقي العلوم والحكمة والمعارف الإلهية بمتسع الوجود. إن موسى عليه الصلاة و السلام، رغم كونه نبياً مكلماً، أراد أن يصل إلى بعدُ متقدم من الإدراك العرفاني و الوصول إلى هذا المقام النوراني العرفاني بالخاصة الخاصة المقربين من الله بتحقيق العبودية الكاملة ، لذلك كانت رحلته طلباً لمعرفة أسرار العلوم الباطنية العميقة، وكان لقاؤه بالخضر عليه الصلاة و السلام كشفاً لحجاب البصيرة وهو فوق مستوى مدارك العقل وذلك بإتباع المرشد الروحاني سيدنا الخضر عليه الصلاة والسلام. بالتجربة الفعلية الحية لمعرفة السر وراء تقدير الأمور الإلهية الظاهرة والمخفية. فالمعرفة الباطنية التي كان النبي موسى يسعى إليها ليست علوماً نظرية فحسب، بل هي أحد مفاتيح ابواب العلوم والحكمة والمعارف الإلهية و تطبيقها نظرياً وعملياً. ويكمن السر الأعــظـم في الوجود من خلال معرفة ما وراء أسباب الحدثان “، و إدراك سريان المشيئة الالهية في كل شيء في نظامه الكامل الشامل نظام وحدة الوجود الذي ينقسم إلى اربعة ركائز من أسماء الله الحسنى ( الأول – الأخر – الظاهر – الباطن ) ورد ذكرها بقوله تعالى في سورة الحديد الآية (3) (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وهنا يكمن جوهر المسألة :
لماذا لا يدرك موسى هذه العلوم إلا في مجمع البحرين؟
ج/ لأن هذا المقام هو نقطة التحول في السير العرفاني، حيث تلتقي الأسباب مع المسبب لها بصورة مباشر ، المرئي والمخفي، عالم الملك وعالم الغيب والشهادة، وحين تتلاشى الحجب ، يتلاشى الزمان والمكان، ويتحد الجزئي بالكلي، فينكشف سر الأعظم وهو معرفة وجود الإله وسر القدرة العجيبة و التدبير الإلهي العظيم تتجلى بالمشاهدة والمكاشفة ورياضة الروحية، يكون كشف الغطاء بفتح بصيرة عين القلب البرزخية، قال الله تعالى سورة : ق الآية (22) (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وتتجلى المكاشفات أيضاً في تلاوة سورة النور الآية (35) :
( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
ومن هذه الآيات الكريمة تحدث المكاشفات وشهود الحق ومعرفة الحقيقة، و بعد ذلك يتجلى العلم اللدني لمن كان مستعداً لحمله. الإلهام العرفاني : هو انكشاف الغطاء عن البصيرة التي تنبع من التجربة الروحية العميقة، حيث يستلهم العارف الحقائق الكونية و الوجودية وتتجلى معاني الحكمة الربانية ومعرفة العلوم الالهية التشريعية والتكونية ومن ضمنها الغيبية بشكل مباشر على قلب العارف من فيض الوحي الإلهي، دون الحاجة إلى برهان عقلي أو استدلال منطقي. يعد الإلهام الإلهي لأهل العرفان ثمرةً لصفاء القلب والتجرد عن العلائق الدنيوية المادية وشهوات والغرائز الحيوانية، وهو مرتبط بالكشف والشهود، حيث ينكشف للعارف ما وراء طبقات الحجب الغيبية الفواصل والحواجز بين العالم المادي الظاهر والعالم المخفي ما وراء الطبيعة، وذلك عن طريق تلاوة سور القران الكريم المخصصة بالكشف والشهود والصحوة الروحية باستمرار وتكرار حسب طرق السادات الصوفية فتتوسع المدارك الحسية الاستشعارية والعقلية والقلبية، فيدرك المعاني بحقيقتها لا بمجرد صورتها. في الفكر الصوفي، يستقبل الإلهام ويحس على أنه نفحات ربانية و أنوار ملائكية قدسية يفيض بها الله على قلوب وارواح عباده الذين تطهروا من ظلمات النفس الأرضية والسفلية واتصلوا بنور الحق وارتقوا إلى العوالم السماوية العلوية فتجلت على قلوبهم أسرار العلوم و الحكمة والمعارف الباطنية اللدنية في سور القران العظيم . وهذا التجلي لا يختلف عن الوحي الذي يختص بالأنبياء والمرسلين، لكنه شكل من أشكال الفيض الروحي الذي يلهم الأولياء الصالحين بالعلم والحكمة والمعرفة للخاصة أو الخاصة الخاصة من ورثة الانبياء والمرسلين واتباعهم مثل الحواريون اصحاب وانصار النبي محمد واله الأطهار عليه الصلاة والسلام الذين ورد ذكرهم في سورة الصف الآية ( 14) .