اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شوملفات
الكاتبة والمترجمة باهرة عبد اللطيف : رفضي للظلم يجعلني انحاز للمرأة المضطهدة
تعلمت الكثير من الادب والفكر والكتابة من اعمال ” بورخيس ”
رفضي للظلم بكل أشكاله هو ماجعلني قريبة من النساء المضطهدات
حاورتها لـ” وكالة فضاءات نيوز ” – كريمة الربيعي
ولدت باهرة محمد عبد اللطيف دعام 1957 في بغداد العراق، وحصلت على البكالوريوس في اللغة والأدب الأسباني من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1979 بتقدير امتياز، كما حصلت على دبلوم عالي في الترجمة الفورية ودبلوم عالي في الترجمة التحريرية وبتقدير امتياز من جامعة أوتونوما بمدريد عام 1982.[3] تحمل شهادة ماجستير في أدب أمريكا اللاتينية من جامعة اوتونوما بمدريد ودبلوم في دراسات الهجرة والتفاعل الثقافي. عملت أستاذة للغة والأدب الإسباني في جامعات عديدة من بينها كلية اللغات (جامعة بغداد) و أوتونوما وجامعة كمبلوتنسي بمدريد، وحاضرت في العديد من الجامعات والمعاهد الأخرى. تكتب باللغتين العربية والإسبانية، ولها العديد من الكتب المطبوعة بكلا اللغتين.
تعد باهرة محمد عبد اللطيف من أفضل المترجمات المتخصصات في اللغة الإسبانية على مستوى العراق والوطن العربي وإسبانيا. وقد حازت ترجمتها لكتاب «الغابة الضائعة» وهي مذكرات الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي، على جائزة أفضل كتاب مترجم في العراق عام 1993. كما حازت دراستها المعنونة «رجم» والصادرة بمدريد، على إشادات الكثير من الكتاب الإسبان المتخصصين في قضايا المرأة. خلال أكثر من عشرين عاماً من إقامتها في مدريد، قدمت باهرة العشرات من المحاضرات عن الأدب العربي والإسباني وعن وضع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، كما شاركت كأكاديمية وتدريسية ومثقفة في نشر الثقافة العراقية والعربية والإسلامية وساهمت بشكل فعال في ترسيخ ثقافة التعريف بالتراث العربي والإسلامي في الغرب من خلال تواصلها مع المثقفين الاسبان عبر مئات الندوات والدورات والكورسات والمهرجانات.
” فضاءات نيوز ” ..كان لها هذا الحوار الصريح والممتع مع الكاتبة والمترجمة باهرة عبد اللطيف :
1-متى كانت البداية، وأين تحديدا هل في الشعر أم القصة أم المسرحي؟
البداية كانت في الطفولة أيام الدراسة من خلال الولع بدرس المحفوظات وترديد
الأناشيد في رفعة العلم بينما رجفة تجتاح قلبي الصغير وأنا ألثغ بحرف السين وأردد أطول “المحفوظات” بشعور هو مزيج من الحياء والزهو. ثم واصلت في مرحلة المتوسطة والأعدادية فقد كنت أحب دروس الأدب والنقد والإنشاء التي كانت تضجر الزميلات وكنت أحفظ الأشعار منذ القراءة الأولى.
هل كانت تلك هي البداية؟
لا أعتقد فقد كنت أكتب الشعر -أو ما توهمته كذلك-
منذ طفولتي وأقرأ كثيرا كل ما يقع عليه نظري في مكتبة العائلة من كتب ومجلات. كنت أقرأ كثيرا وأدون خواطري البسيطة وأحلم أكثر، وكلها تصلح مقدمات لانشغالاتي المستقبلية. والآن وبعد كتابة عدة دواوين شعرية ما زلت أحسب أني هاوية في كل مااكتب , القصة تأخرت في كتابتها بعد ان نضجت عدتي الكتابية من خلال الترجمة الادبية .
وعبر تدريس مادتي الأدب الإسباني والترجمة، أولا في قسم اللغة الإسبانية بكلية الآداب في بغداد آنذاك، ولاحقا عملت في عدة جامعات إسبانية حتى اليوم. إذ فضلا عن تدريس الترجمة الفورية والترجمة التحريرية، باللغتين العربية والإسبانية مع الإنجليزية كلغة تخصص ثانية، تخصصت في اللغة العربية أيضا وبت أدرسها جنبا إلى جنب مع الثقافتين العربية والإسلامية. لكني للأسف لم أصدر سوى مجموعة قصصية واحدة هي “تأملات بوذية على رصيف الموت” وأسعى لأصدار المزيد مستقبلا لأني أحب الجنس القصصي.
أما المسرح فقد حاولت من خلاله تجريب شكل آخر للبوح والتعبير عن أفكاري وقد جاء بتحريض من أستاذة جامعية إسبانية متخصصة في المسرح، كونتشا فرنانديث سوتو، وقد استأذنتني في إطلاق عنوان مسرحيتي على كتابها الذي ضم عشرين صوتا مسرحيا نسويا من العالم. وقامت المخرجة المسرحية القديرة أسونثيون رودريغيث بإخراج مسرحتي “كرسي على الحدود” وعرضها في أحد مسارح مدينة ألمرّيا الإسبانية.
وكان من المفترض تقديمها عربيا على خشبة المسرح بعد أن فاتحني المخرج السوري الراحل الدكتور أكرم يوسف برغبته في إخراجها واتفقنا على الخطوط الأولية للموضوع إلا أن المنية عاجلته لسوء الحظ ففقدناه مبكرا، ولم يخرج هذا العمل إلى النور.
هل كان للعائلة أو شخصية صديقة دور في ذلك؟
ثمة شخصيات من العائلة وقد تحدثت في حوارات سابقة عن الدور الثقافي الذي لعبه شقيقي الأكبر ووالدي وأقرباء آخرون مقربون في تشكيل وعيي الثقافي في عمر مبكر وفي توجهي نحو عالم القراءة والمعرفة.
إلا أني أشعر الآن برغبة للحديث عن مد ّرستي الست نجلاء، مدرسة اللغة العربية في مرحلة الثانوية، علما إن مدرسات هذه المادة كن دوما رائعات وتعلمت منهن الكثير. الآن يتردد صوتها في ذاكرتي بهدوئه وتماسك جرسه وهي تحدثنا بعربية فصحى، لا تنحرف إلى أي استخدام عامي على عادة المدرسين. جملها القصيرة كانت تحرضنا على التفكير ولم تكن ترتاح إلى الحفظ الببغاوي لبعض الطالبات. كنت أصغي بإجلال إلى مدرسة العربية الرائعة تلك، المفصولة سياسيا والخارجة توا من سجون النظام في أيام الجبهة الوطنية التقدمية، إذ تم إعادة المفصولين السياسيين. كانت تشعر بغربة في أجواء المدرسة والكل يتهامس من حولها، وكنت أعي على نحو غامض موقفها وأتعاطف سرا معها من خلال الاجتهاد في درسها ومحاولة إثارة إعجابها بكتاباتي في درس الإنشاء، مع أنها كانت قوية حد إشاعة الرهبة في قلوب الطالبات. كانت تسير مرفوعة الرأس بخيلاء استحقت عليها انتقاد الجميع ووصفها بالغطرسة والعجرفة.
كم كان عمرها؟
في أربعيناتها لكننا كنا نرى لها هيبة الكبار في السن ووقار الحكيمات. طلبت إلينا أن نكتب عن الحرية في أول درس إنشاء لنا معها. فكتبت عن نوعين من الحرية: الحرية الرأس والحرية الذنب. عنيت بالأولى الحرية في معناها الجوهري الوجودي للإنسان والثانية بمعناها السطحي الذي يفهمه محدودي الأفق من حرية الملبس والمأكل وتفاصيل الحياة الصغيرة. أعجبها ما كتبت. وبعد أن ناقشتني فيه وبعد أن رددت على أسئلتها طلبت مني أن أم ّر على بقية الصفوف وأن أقرأ لهم ما كتبت. فعلت ذلك بزهو ما بعده زهو، وهي تنظر إلي بعينين حادتين وشبه ابتسامة تلوح على وجهها من غير أن تنفرج شفتاها. سأبقى ممتنة لها دائما لأنها كانت نموذجا ثقافيا حرضني على التفكير والكتابة، والاقتداء
بها لاحقا في صلابة الموقف المبدئي والدفاع عنه مهما بلغت الخسائر.
3-أين تجد باهرة نفسها عندما تكتب، هل في اللغة العربية أم الإسبانية , أي بمعنى شعورها هل يكون أقوى في كتابة الشعر أو القصة بالعربية أم الإسبانية ؟
أنا أكتب بكلتيهما، تبعا للظرف والمناسبة والجمهور. فعندما أتوجه إلى جمهور إسباني تكون أداة التخاطب والتواصل هي الإسبانية ويحدث الشيء نفسه مع العربية. لكن يبقى للعربية أبلغ الأثر في نفسي لأنها لغتي الأم، ولأن العربية تختلف عن اللغات الأجنبية التي هي أكثر مباشرة وعملية في التواصل، في حين أن فيض ثراء العربية يجعلها إداة للإبداع والجمال والتجويد فضلا عن التواصل. وهذه الميزة هي سلاح ذو حدين ما لم يكن الكاتب أو الخطيب واعيا إلى هذه المسألة وإلا فاللغة تغدو هدفا بذاتها لا وسيلة لنقل الأفكار والتواصل. بينما هدف اللغة الأول هو توصيل الأفكار، ثم تأتي مهمة الأديب بتجويد أسلوب الرسالة التي يريد إيصالها والتعبير عنها بشتى الصيغ والأساليب
والقواعد شعرا أم نثرا، قصة أم مسرحية، رواية أم سيناريو فيلم أو مسلسل..وهكذا.
اللغة الإسبانية من اللغات الأوربية الغنية ولها مشتركات مع اللغة العربية لا
تقتصر فقط على أكثر من أربعة آلاف كلمة من أصل عربي مازالت قيد التداول، بل
الكثير من الأمثال والعبارات المشتركة مع ما لدينا في لغتنا العربية. وقد أحببت اللغة الإسبانية كثيرا ووجدت فيها أداة قيمة للتعبير عن أفكاري وإبداعي. وقد اغتنيت كثيرا بأدب وفكر وفن الثقافة الإسبانية، بالقراءة أولا والتدريس والترجمة ثانيا، ثم باستخدامها أداة رائعة للتعبير عن دواخلي.
متى بدأت نشاطك النسوي، وماهي القضايا التي حفزت باهرة لتخوض في هذا المجال؟
رفضي للظلم بكل أشكاله هو ما جعلني منذ الطفولة انحاز إلى النساء المضطهدات اللواتي يتعرضن للعنف الأسري أوالظلم الاجتماعي. لقد نشأت في بيئة منفتحة اجتماعيا وحظيت بطفولة سعيدة حتى بدأ وعيي يشاغب علي مع مرحلة الصبا والشباب. وكان ج ّل اهتمامي على مدى عقود من حياتي هو وضع النساء في مجتمعاتنا العربية وطغيان العقلية الذكورية المسيطرة على علاقة الرجل (أبا وأخا وزوجا) بالمرأة (ابنة وشقيقة وزوجة). مجتمعاتنا أبوية ذكورية بامتياز تمنح الولد حقوقا أعلى من شقيقته منذ مراحل الطفولة الأولى، وتسهم فيها الأسرة بالدرجة الأولى، بحكم هيمنة العادات الاجتماعية المتخلفة وبعض الأفكار الرجعية السائدة التي لا علاقة لها بقيم الدين، لكنها سوغت وشرعت في أحيان كثيرة تحت هذا المسمى. ثقافة “العيب” و”الحرام” تحكم علاقاتنا كمجتمع عراقي أو عربي، بدلا من أن تكون المنظومة الأخلاقية للإنسان هي الرادع عن الخطأ في السلوك الفردي وفي علاقته بالمجتمع والدولة. وكل هذا يحدث بسبب غياب المواطنة الحقيقية التي تضمن المساواة لجميع المواطنين أمام القانون وفي الحقوق والواجبات في ظل قيم ديمقراطية حقيقية وسلطة قانونية مستقلة وعدالة اجتماعية تحمي الأفراد من غائلة الفقر والتهميش والظلم، سواء أكان المواطن امرأة أم رجلا.
انتصرت لنساء كثيرات في حياتي، حميت صديقات من شتى المخاطر ودافعت
عن حريتهن قبل أن أنخرط في العمل المجتمعي المدني في إسبانيا وأكرس الكثير من كتاباتي عن النساء العربيات والمسلمات في الغرب. لقد عملت في العقود الثلاثة الأخيرة مع منظمات نسوية وتعلمت الكثير من نساء مناضلات قدمن الكثير لمجتمعهن ولقضية حقوق الإنسان وحقوق النساء.
أكثر ما يحزنني في الآونة الأخيرة هو الهجوم المنظم على كفاح النساء ودور الحركات النسوية من خلال سياسة خلط الحابل بالنابل، أعني خلط السياسة بالدين لتبرير الهجوم على التنظيمات المدنية وحركات التحرر النسوية. أضرب مثالا على هذا ما يجري من تشويه متعمد لهذه الحركات التي ناضلت في عالمنا العربي منذ مطلع القرن العشرين من أجل تحرير المرأة من حالة العسف الاجتماعي والتهميش والعنف الممارس ضدها في المنزل والشارع، في الريف والمدينة. لقد كانت جداتنا أكثر وعيا من الجيل الحالي من الفتيات اللواتي يجدن أنفسهن بين نموذج رأسمالي يعمل على تشييء المرأة في مختلف منصات التواصل ووسائل الإعلام، ونموذج إسلاموي محكوم بخطاب رجعي ترعاه نظم ومؤسسات عربية يعرفها الجميع. من المؤسف جدأ أن لا نرى ولا نسمع أصوات النساء الواعيات لذواتهن وقدراتهن ودورهن في المجتمعات العربية خارج
هيمنة السياسة الرجعية أو المنابر المتأسلمة. في أعوام شبابي كانت قضايا النساء وتحريرهن والدفاع عن استقلاليتهن
الاقتصادية واضحة ومطروحة للنقاش المجتمعي وثمة منابر وهيئات للتعبير عنها، لذا كان طبيعيا أن تنخرط كثير من الفتيات والنساء في هذا التيار. أما اليوم فالفوضى ضاربة، سياسيا واجتماعيا، والخنادق متداخلة، والعدو بات صديقا مع حملات التطبيع العار. كما أن هناك غياب واضح لأفكار الاستنارة التقدمية في ظل موجة عالمية للأفكار اليمينية حتى أن بعض حقوق النساء في الغرب ايضا باتت مهددة، فما بالنا بمجتمعاتنا التي ترزح في فوضى “لاخلاقة” اصبح فيها الرجال والنساء معا أرقاما غير مؤثرة في مجتمعاتهم إلا في استثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها.
-ما هو تأثير الغربة على ما تكتبه باهرة، وهل وجدت البيئة التي تجعلها تكتب ؟
الغربة لها أثر كبير في كل تفاصيل حياتي على المستوى الشخصي وعلى المستوى الكتابي. قبل ذلك لا بد لي من القول إنها أيضا التحدي الأكبر الذي واجهته في حياتي. كنت مترفة رقيقة أحيا في جو اجتماعي مرفه، وحتى تمردي وثورتي على الكثير من الظواهر الاجتماعية التي كنت أرفضها كانت نوعا من الترف الفكري لأني كنت أعيش في سياق اجتماعي يوفر لي الأمان النفسي والاقتصادي. لقد “اخترت” الغربة اضطرارا لأني كنت مختنقة بسبب الجو العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عز أعوام الحصار (عام 1995)، عندما غادرت الأمان الأسري وعملي في دار المأمون للترجمة والنشر في وزارة الإعلام والتدريس في كلية اللغات في قسم اللغة الإسبانية، وعدت إلى إسبانيا التي درست فيها من قبل. إذاك بدأ الشعور الحقيقي بالانقلاع والخوف والوحشة وانعدام الأمان النفسي والحياتي وكل
الأفكار التي تنال من عزيمة المرء. لذا كانت تلك الخطوة نقطة تحول كبرى في حياتي لأني ذهبت بلا أي دعم مادي
أو نفسي من أي جهة. كنت أحمل حقيبة واحدة هي كل ما سمح لي بحمله ومائة دولار، ومبلغ استلفته من بعض الأهل على أمل استلامه في ع ّمان. كانت تجربة انهكت صحتي لكنها غيرتني تماما، إذ لم أعد تلك الرومانسية الثائرة الحالمة بل أصبحت أكثر قوة وجلدا واحتمالا، وحكمة أيضا. فالضربات المتكررة خير معلم لأنها تزودنا بمهارات البقاء على قيد الحياة، والكرامة أيضا.
في الغربة يكتشف المرء نفسه وإمكانياته ويختبر أفكاره وكل خزينه القيمي والمعرفي أيضا. كما أنها تستدعي كل قدراتك الكامنة للدفاع عن ذاتك وهويتك المقتلعة والمعرضة للمحو في كل موقف، خاصة وأني خرجت بغصة كبيرة في القلب إزاء الوطن وشجونه، غصة تحول أحيانا دون الحكم بموضوعية على قضايا يعتقد الكثير منا إنها مسلمات. أعني أن الحوار مع الآخر يغدو صعبا جدا في هذه الحالة، إذ عليك اختبار كل ما حملته معك من تاريخ وقيم إنسانية واجتماعية وحمولة الدين والأفكار الموروثة، وكل مكونات الهوية الوطنية، لتغربلها أولا ثم لتحافظ عليها بلا تعصب أو شوفينية. كيف ستقبل الآخر الذي تعمل وتعيش معه وتحاوره، بكل موروثاته وحمولاته المختلفة عما لديك، والمسيئة أحيانا أو الحافلة بالأفكار المسبقة والصور النمطية .
كيف لك أن تكسب احترام عقل الغربي قبل محبته وتعاطفه مع قضاياك الوطنية والعربية؟
أول الأمر كنت أركض في شتى الاتجاهات على نحو غير واع أبحث عن طريقة للعيش بكرامة، وأتعامل مع قوى اليسار الإسباني في كافة القضايا التي تهمني كعراقية عربية، وأشارك وأدعى إلى الندوات والمؤتمرات والمحافل حتى بت معروفة إلى حد كبير في وسائل الإعلام الإسبانية وباتوا يتصلون بي في كل ما يخص العراق أو النساء
العربيات. في الأعوام الأخيرة هدأت وخففت من إيقاعي مرغمة بعد تعرضي ل”منخفض”
صحي ألم بي، كما اعتدت القول لأصدقائي حين يسألونني عن سر غيابي أو قلة تواصلي.
من هنا فإن كتاباتي كلها متأثرة بهذا الحوار الدائم بين السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي أعيش فيه وبين ما أحمله في داخلي من مكونات هويتي الأولى، وهذا الحوار يصبح سجالا أحيانا أو يصطدم بتشدد الآخر لكني تعلمت أن أتحاور بهدوء واحترام وندية مع الآخر، كائنا من يكون.
هل ساهمت الترجمة في تطوير الملكة الشعرية لدى باهرة؟
بالتأكيد، فالترجمة في الوقت الذي تفتح فيه مغاليق الكتب المعجمة الخفية للقراء
فهي تضيف إلى خزين المترجم تفاصيل دقيقة حميمة عن أسلوب هذا الكاتب أو ذاك الشاعر الذي يترجم عنه. فالمترجم، خاصة إذا كان شاعرا، يستمتع ويتعلم من هذه التفاصيل التي قد تغيب عن القاريء العربي لاحقا لأنها تخفت أو تتلاشى في الترجمة مهما بلغ المترجم من براعة، نظرا للاختلاف اللغوي والدلالي والنفسي وإحالاته على الذاكرة الثقافية للنص الأجنبي. وهذا ما كنت أحسه مع أي ترجمة شعرية قمت بها عن شعراء أسبان أو من أمريكا اللاتينية.
لذا أزعم أن الترجمة علمتني الكثير حول أساليب الشعراء والكتاب، وكما قيل فالأسلوب هو الإنسان (لا كما ترجم قديما: الأسلوب هو الرجل!).
أتذكر في هذا الصدد ترجمتي لمذكرات ألبرتي. كانت أول تجربة لي وتحد في آن واحد لأن أسلوب ألبرتي الشعري في نثره كان عاليا، ناهيك عن الشعر الذي أورده في كتابه. لكني خرجت منها متعافية ممتلئة بكم هائل من المفردات الثمينة والاستخدامات اللغوية والاستعارات والصور الشعرية. وكذلك الحال مع شعراء أمريكا اللاتينية الذين ترجمت لهم من خلال أسلوبهم المميز النابض بالحياة الراعف توقا للحرية.
ثم إن تجربتي في قراءة أعمال بورخيس كاملة فضلا عن عشرات الكتب عنه
وعن شعره جعلني أتعلم الكثير منه ومن حكمته في الأدب والفكر والكتابة. لذا أقول بتواضع أني أكتب بأسلوب مختلف تماما عن ما يكتبه الآخرون. ليس أفضل، لكنه مختلف. تعلمت من بورخيس الإيجاز في الشعر، في الكتابة الأدبية وفي الحديث أيضا. فأنا لست مستعدة للإطالة كي أقنع القاريء بما أقوله بل أسعى لإيصال رسائلي إليه في أقل وقت، وبما يبقيه متحفزا للمزيد. أنا أخشى ملل القاريء، ولكم شعرنا بالملل من كتّاب كثيرين، بضمنهم كتّاب معروفين، وكم تمنينا في أعماقنا لو أن هذا الكاتب لم يسهب هنا،ولم يستطرد هناك ليبقي القاريء متحفزا متفاعلا لا تنتابه حالة من الشرود أو الملل!.أيضا تعلمت من بورخيس عدم الانسياق خلف رغوة اللغة وإغراءاتها. وهذا خطر
ماحق يتهدد الشعر العربي منذ مطالعه: الحشو اللغوي، نظرا لأن اللغة العربية ثرية جدا بمفرداتها، فيسقط الشاعر تحت تأثير غواية اللغة واستطراداتها. وجميعنا قرأ قصائد .
يمكن اختزالها إلى النصف أو أكثر، احتراما لوقت القاريء وجهده، وذائقته أيضا. وهذه الجملة الأخيرة هي شعاري في كل ما أكتب: احترام القاريء وإشعاره بهذا الاحترام.
من هم قراء باهرة هل هم المستشرقون، أم الشباب أم النساء ؟
القراء عادة يبقون مجهولين بالنسبة للكاتب، ما لم يب ِد القاريء تعليقا أو رأيا له. بهذا المعنى أنا ممتنة لقرائي ولتعليقاتيهم وآرائهم ورسائلهم التي تصلني كلما نشرت شعرا أو نثرا أو دراسة أو ترجمة. هذا على الرغم من قلة نشري، إذ ليس كل ما يكتبه الكاتب بالضرورة ينبغي نشره أو أنه جدير بالنشر. ولابد من ترك المادة المكتوبة لبضعة أيام أو أسابيع، وأحيانا لسنوات، قبل أن ينشرها الكاتب. وأني لأعجب حقا من أولئك الكتّاب الذين باتت عاداتهم في الكتابة الفيسبوكية ديدنا مميزا لهم في النشر اليومي.
بالعودة إلى سؤالك حول من هم قرائي. قرائي هم من الشباب والنساء وكبار السن، ممن يحملون ذائقة حديثة فأنا أزعم أني أكتب بلغة حديثة مفهومة شعرا ونثرا وإحساسا. كما إن كتاباتي عن النساء تصل إليهن على غير توقع. وثمة قراء من مجالي يدهشونني أحيانا بمتابعتهم في لمسة كرم حقيقي تسعدني.
أما المستشرقون -ويدعون هنا في إسبانيا بالمستعربين لأن هذه التسمية تاريخية تعود إلى حقبة الأندلس ويشار بها إلى المسيحيين الإسبان الذين اتقنوا اللغة والثقافة العربية- فلحسن الحظ أن علاقتي بكثير منهم رائعة وأحظى بصداقتهم وتقديرهم واهتمامهم ونتعاون معا في ندوات ومؤتمرات ومناسبات كثيرة.
هل واجهت صعوبات في هذا المجال ، ماهي وكيف تم تجاوزها؟
الصعوبات هي التي تصقل شخصية الإنسان حيثما كان. فالحياة التي تخلو من التعقيد والمشقة والانعطافات تصبح أفقية مملة تخلو من التحديات التي تستنفر الطاقات الكامنة في الإنسان. لو لم أغادر العراق لكنت قد وفّرت عل ّي الكثير من الصعاب حتما، إلا أني كنت سأفتقد الخبرة التي اكتنزتها في أعوام الغربة هذه. من هنا فأنا مدينة للصعوبات الكثيرة التي اعترضتني في صقل شخصيتي وتوسيع مداركي، والأهم هو في اختبار قدرتي على المطاولة والتحمل، بعصامية مطلقة. تعلمت من العيش مع الإسبان الكثير وأعدت اكتشاف هويتي الوطنية والعربية والإنسانية. فالغربة مختبر هائل لخوض شتى التجارب الذاتية والنفسية والفكرية وحتى عندما تخيب النتائج توقعاتك فإنها تغني
زادك الإنساني والمعرفي. تاريخ حافل بالجوائز والقصص والأشعار والترجمة، ماهو شعورك كعراقية مغتربة.
الإنجاز الكتابي المتنوع كان باستمرار يسير بالتوازي مع عملي الأكاديمي في الجامعات الإسبانية الحكومية والتزاماتها الكثيرة، ومع الترجمة الفورية التي كنت أعمل فيها من خلال مئات المؤتمرات الأوروبية والدولية، وكلها تسير جنبا إلى جنب مع أنشطة أخرى تشمل المحاضرات والندوات وتنظيم الدورات والفعاليات الثقافية. ولعل الأسبوع الثقافي العراقي الوحيد الذي نظم عن العراق في السنوات العشرين الأخيرة كان من تنظيمي بالتعاون مع عدد قليل من الكتاب والفنانين الأصدقاء العراقيين المقيمين في إسبانيا وكان بجهود فردية تماما. كل ما ذكرته كان تعبيرا عن هوية وطنية وإنسانية حرصت عليها وعلى تقديمها في أبهى صورة. هاجسي كان ومازال هو أن أكون همزة وصل بين ثقافتي العراقية والعربية الإسلامية وبين الثقافة الإسبانية المسيحية في جوهرها العلمانية في نظامها السياسي، من خلال تفاعلي المستمر وحواري المتصل مع من حولي من الإسبان والعرب. لي أصدقاء وصديقات من اليسار الإسباني من كتّاب وفنانين وساسة، وأيضا لد ّي صديقات وأصدقاء من رجال الكنيسة ممن يؤمنون بالحوار مع الآخر المختلف ويرحبون بالتفاعل معه. وقد اغتنيت بالحوار مع الجميع وتعلمت احترام الآخر المختلف.
مدى رضاك عن مسيرتك الادبية والمهنية ؟
أنا راضية عن مسيرتي على مدى ثلاثين عاما من الإقامة في إسبانيا ومن التفاعل مع الثقافة الإسبانية باحترام وندية، ولعلي محظوظة حقا بهذا الكم الهائل من الاحترام والتقدير الذي يعاملني به الإسبان والعرب على حد سواء.
10- كلمة أخيرة أو رسالة لمن؟ وما هي؟
كلمتي الأخيرة ستكون للقاريء أو القارئة التي ستقرأ هذا الحوار بصبر وبشيء من متعة أرجوها.
أدعوه للاستزادة من المعرفة بالقراءة وممارسة العقلانية في الحياة، فنحن غالبا ما نبلغها متأخرين لأن تربيتنا الاجتماعية والتعليمية لا تحثنا على التفكير والتحليل المنطقي والفهم العميق لجوانب الحياة. كما أن تعليمنا تلقيني في الأغلب، وثقافة الحوار غائبة عن علاقاتنا. ولا أحد ينكر أن علاقتنا بالمعرفة نفعية، والامتحانات نخوضها للنجاح لا للتعلم كهدف قائم بذاته.
كما أن غياب درس الفلسفة عن مدارسنا فاضح وفادح. نكبر وتكبر معنا ثغرات
عميقة في أسلوب تفكيرنا، في جهلنا أسس التخاطب والنقاش بعيدا عن الخوف في علاقة بعضنا بالبعض الآخر. ردود أفعالنا إنفعالية في أغلب الأحيان، نتعجل في إطلاق أحكامنا النمطية، لا ندرك كسلنا الحياتي، ولا نتأمل ترددنا إزاء أبسط التجارب. كما أن انعدام الثقة بالآخرين هو نتيجة حتمية لنقص الثقة بأنفسنا لأن الأسرة والبيئة الاجتماعية لا تنمي ثقة المرء بنفسه. أتأمل الكثير من الأقوال والأمثال الشعبية التي تستخدم خارج سياقاتها المنطقية، من قبيل: الخوف حلو، الحذر يقيك الضرر، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وعشرات الأقوال والحكم الشعبية التي تسكن دواخلنا وتحكم سلوكياتنا… إنها دعوة للتأمل في ثقافتنا الاجتماعية لتجاوز القيود التي تحجم قدرات الجميع وتعيقهم عن النهوض ببلداننا أسوة بالمجتمعات الأخرى.