اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

” قصة قصيرة ” .. ( القلب ) ..للقاصة الروسية نارينا ابغريان

” القلب “ قصة قصيرة من كتاب ” أستمر بالعيش ” للقاصة الروسية  نارينا ابغريان

 

    

بقلم  – المؤلفة الروسية نارينا ابغريان  …..* ترجمة – الاديب والمترجم العراقي – حسين صابر

قالت زابيل: 

– لا تضطجع على جنبك الأيسر سيؤلمك قلبك وقلبي أنا أيضًا، لأنني عندما تفعل ذلك أستلقي مثلك على جنبي الأيسر.
تذمّر آرتو وهو يستدير على جنبه الأيمن، وعقّب:
– أنتِ تعملين كممرضة، ومع ذلك تؤمنين بكل أنواع الهراء.
ردت زابيل موضحةً:
– أنا لا أؤمن بذلك، لكن جدتي علمتني منذ الطفولة ألا أنام على جهة القلب.
كانت زابيل تحب النوم بهذه الطريقة، فعندما تكون بجانبه فإنها تحضنه وتضغط جسمها عليه من الخلف وتتنفس عند ظهره. تسمي نفسها “الصَدفَة” تشبهًا بغطاء الحلزون.
تذكرت واحدًا من أهم أيام حياتها، فتنهدت وقالت:
– تخيل لو لم تأتِ إلي في ذلك اليوم، بل ذهبتَ إلى الغرفة المجاورة، إلى نينيك. إنها أيضًا ممرضة جيدة ويدها (خفيفة)، وهي تعرف كيف تزرق الحقن دون أن تشعرك بها. وهي أجمل مني بألف مرة. نعم أجمل.
قالت ذلك وهي حزينة ومشوبة بالاستياء. حاول آرثو ألا يدير وجهه نحوها كي لا ترى مزاجه المرح، وقال:
– نعم لم أكن محظوظًا.
امتعضت وقالت:
– أحمق.
قام بتصحيح الموقف بسرعة:
– أنا لم أعرف امرأةً أجملَ منكِ، ولم أحب امرأةً غيركِ.
– نعم؟ نعم؟
تنهدت زابيل كالطفل الذي اغرورقت عيناه بالدموع، لكنها تمكنت من كتم دموعها وأكملت:
– تخيل لو لم تأتِ أنت إليَّ ما كنا لنتعرف على بعضنا ولم نحب بعضنا البعض. لم نكن لنتزوج ونعيش هنا في هذا البيت الجميل الآن.
أخذها بين ذراعيه وقبّلها في أخدود العسل الذي تحت عظم الترقوة. استمرت المحاورة وهما في السرير، فقالت له:
– كيف يمكن لشخص ضئيل الحجم، وصغير جدًا بالقياس إلى حجم الكون أن يشغل كل مساحة حياتي؟ كيف؟ والأهم من ذلك، لماذا؟
همس آرثو:
– أنا أستمع إليكِ وأفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، إنها السعادة التي تأتي صدفةً. أنا أعشقكِ وأنتِ أيضًا امرأة ضئيلة الحجم، وصغيرة جدًا بالقياس إلى الكون وصرتِ سببًا لسعادتي.
التقيا في شهر كانون الثاني البارد. كان آرثو قد أصيب بنزلة برد شديدة، أدّت إلى آلام أسفل الظهر. ذهب إلى الطبيب، ثم دخل إلى غرفة التمريض لأخذ الحقن التي وصفها له، فكانت هي هناك: بشرة وردية ناعمة، وعيون بنيّة مشعّة، مع حزمة كثيفة من الشعر الداكن، تجعلك تتساءل كيف تمكنت من وضعها تحت قبعة التمريض. أُحرِج آرثو وافتعل على عجل سببًا أحمقًا للمغادرة، لكنها أدركت أنه كان خجولًا، فقالت له:
– إن الممرضة الثانية أيضًا صغيرة، وستشعر أنت بنفس الإحراج، لذلك ليس لديك مكانٌ آخر تذهب إليه.
رفع يديه مستسلمًا، فحذرتّه على الفور من أنه سيتألم، لأنه بالإضافة إلى الأمور الأخرى، فأنهم وصفوا له حُقن الفيتامينات وهي مؤلمة دائمًا. سألته:
– هل ستصبر وتتحمل؟
– وأي شيء في حياتنا مرَّ بلا صبر وتحمل؟
بعد الحقن التي اتضح أنها مؤلمة حقًا لم تسمح له بالنهوض قائلةً:
– استلقِ لمدة عشر دقائق على الأقل كما يفترض.
امتثل، ولكن في البداية تأوه وشد سرواله. ضحكت وقالت:
– كم أنت خجول.
تمتم:
– أنا هكذا.
بانتهاء تلك الدقائق العشر بدا أنهما يعرفان كل شيءٍ عن بعضهما. تعيش هي مع أخيها في المدينة، بينما يعيش أبواها في قريتهما البعيدة. أما هو فيدرس في المعهد الزراعي، ويعمل بعد الظهر في مشغله الخاص بخياطة السراويل.
تقدم بطلب الزواج في نيسان، وبالكاد تحمّل شهر مايس، ثم تزوج في حزيران. كل ذلك احترامًا لذكرى وفاة جدتها، ولكون الجدة كانت تعتقد أنه لا يفَضّل الزواج في شهر مايس، لأنه لن يأتي بشيءٍ جيد.
في نهاية الصيف ذهبت زابيل لزيارة أهلها، وبعد أسبوعين حوصرت قريتهم، وعندما علم آرثو بالأمر تطوع كفدائي. شق طريقه إلى القرية ضمن مفرزة الفدائيين، لكنهم جوبهوا قبل الوصول بدفاعات قوية، لذا مكثوا هناك لمدة طويلة دون جدوى. مرة واحدة وبعد معركة صعبة تمكنوا من اختراق الطوق، ليجدوا أنفسهم على الطريق المؤدية إلى القرية. شاهد آرثو من خلال المنظار كيف كان الغسيل منشورًا في باحات المنازل التي نجت من القصف. وكيف تصاعدت تيارات رقيقة من الدخان نحو السماء، حيث أشعلت ربات البيوت المواقد من أجل تحضير طعام الغداء قبل القصف التالي. وكيف كان الرجال ينحنون إلى الأسفل كي لا يصابوا بالرصاص وهم يركضون من منزلٍ إلى منزل.
كان من الممكن الوصول إلى القرية فقط بحلول نهاية الخريف. أثناء الليل كانت المناطق المحيطة بالقرية تعلوها الغيوم ويغلّفها ضباب كثيفٌ جدًا. تحت غطاء الضباب شقوا طريقهم إلى هناك متسللين عبر مواقع العدو دون أية خسائر. في وسط القرية وعلى حافة مساحة صغيرة عثروا على جثث سوداء متفحمة. لم يكن هناك وقت لتمييز الأقرباء عن الغرباء لذلك أخذوا الجميع. سيدفنون قتلاهم ويدفنون الغرباء أيضًا، فلم يطغِ عليهم شعور الاهتمام بموتاهم فقط. “إنهم رحلوا وانتهى كل شيء”. استولوا على بعض الأسلحة، وبالكاد سحبوا الجثث إلى طرف القرية.
باقتراب الصباح تجمد الضباب متحولاً إلى قطرات رطبة مزعجة، مما حول الأرض الزلقة الى فوضى يصعب السير فيها. بعد أن رصفوا الجثث بانتظام كي يتمكن أهل القرية من التمييز بينها لاحقًا، وكانوا على وشك المضي قدمًا، توقف آرثو فجأة وبصورة حادة وهو يلمح خصلة شعر كثيفة داكنة مألوفةً لديه عند الجثة الأخيرة. جثا على ركبتيه وأزاح حفنة من فتات الطين عن الوجه.
منذهلًا برؤية الوجه الفظيع الذي يصعب التعرف عليه بسبب السخام والشعر الملطخ بالطين، صرخ بشكل رهيب وهو غير مدرك للمصيبة التي وقعت عليه، واختنق من وقع الألم القاتل. كانت تلك زابيل: شعرٌ قصيرٌ مقصوص، نحيفة الجسم وجلدها ملتصق بالعظام، وفي قدميها حذاءٌ عسكريٌ متهرئ وسترة رجالية بالية. ناداها وهو بالكاد يستطيع تحريك لسانه، وكأنما قيدت أنفاسه المتجمدة شفتيه: “عزيزتي. يا عزيزتي”.
لسببٍ ما قام بفك ياقة قميصها ووضع جبهته على الأخدود الذي عند عظم الترقوة. لاحظ بين أصابعها المشدودة قطعة من القماش. سحبها بصعوبة، فتعرف عليها. كانت قطعة من حزام حقيبة التمريض. استلقى بجوارها ملتفاً كالكرة كما كانت تحب، وأغمض عينيه. استمع إلى الألم ينتشر في صدره:
“كانت جدة زابيل مخطئة، فالقلب يتألم عند النوم على الجانب الأيمن مثلما هو على الجانب الأيسر، وربما أقوى” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق