اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

ثنائية الغياب والحضور في رواية ( دفوف رابعة العدوية) لعبدالستار البيضاني

 

   فضاءات نيوز – فاضل ثامر 

في رواية ” دفوف رابعة العدوية” للروائي عبد الستار البيضاني والصادرة عام 2022 ، ثمة هم مركزي يهيمن على الرواية هو البحث عن الحقيقة الغائبة،أو بالاحرى عن جملة من الحقائق والوقائع الخلافية الملتبسة التي خلقها التاريخ الرسمي والمدون. فالرواية، إحتكاماً الى عنوانها ” دفوف رابعة العدوية ” هي عملية بحث واستقصاء، ربما على طريقة الصحافة الاستقصائية عن المتصوففة الاسلامية رابعة العدوية البصرية المولودة في البصرة حوالي سنة 100 للهجرة والمتوفاة سنة 185 للهجرة، كما يذهب الى ذلك أغلب المؤرخين. وحياة رابعة العدوية مليئة بالتناقضات والأضداد، مما جعلها تقع فريسة سوء تأويل وقراءة من قبل المؤرخين والفقهاء. فهي تجمع في آن واحد بين الغناء، وهو في الغالب غناء صوفي لكنه لا يخلو من بعد حسي، وبين الانصراف كلياً الى عبادة الله. لذا تجد من يرفعها الى مرتبة القداسة بوصفها شهيدة العشق الإلهي، وهناك من يتهمها بالفسوق والتحلل والكفر. ويمكن أن نعد رواية “دفوف رابعة العدوية ” هذه محاولة جديدة، على مستوى السرد الافتراضي ،لاعادة الاعتبار للجوهر الانساني والروحي معاً لشخصية رابعة العدوية. ويحق للناقد أن يشير الى هيمنة ثنائية الغياب والحضور في الفعل الروائي. فثمة صراع جدلي محتدم بين ما هو غيابي، وما هو حضوري. ويمكن القول أن نص حياة رابعة العدوية وسيرتها يمثلان النص الغائب والموازي معاً للنص الروائي المكتوب، وهما يتحكمان الى حد كبير في مسار الحبكة الروائية وتعرجاتها. كما يمكن النظر الى نص حياة بطلة الرواية ” قبس” بوصفها تمثل العناصر الحضورية الحية والمباشرة التي يتلقاها القارئ. لكن هذا القارئ يشعر بوجود نص باطني أو بنية تحتية deep structure تختفي تحت البنية السطحية surface structure للنص الروائي.
وكان الروائي موفقاً الى حد كبير في التقريب التدريجي بين هذين النصين، حيث يلتحم نص (قبس) الحضوري الحي المباشر، بنص (رابعة العدوية) الغيابي الروحي،والموازي، وربما المتحكم في حركة الأحداث الروائية. ويلتحم النصان في نهاية الرواية: نص رابعة العدوية بدفوفها الروحية والصوفية ونص “قبس” بسنطورها وجسدها وجمال عينيها، في ضربة ذكية من الروائي بالانحياز الى الجانب الحسي والجسدي، على الجانب الروحي المحض الذي تختتم به الرواية.
كما تمثل الرواية عملية بحث عن السر الذي يربط رابعة العدوية ودفوفها وبين المرأة التي أحبها “قبس” وسنطورها. وتمثل الرواية، من جهة أخرى، عملية بحث عن الهوية من خلال رحلة البطل الى البصرة بحثاً عن وثيقة للرعوية العراقية لأسرته تؤكد عراقيتها.
إذْ يخبرنا الراوي المركزي وبطلها إنه ” معتقل في رأس امرأة، وتحديداً في حجرة عينيها.” (ص5 ) ويمكن القول أن الرواية هي ايضاً نضال البطل للتحرر من هذا المعتقل ومواجهة حبيبته (قبس) وجهاً لوجه، وهو فعلاً ما تحقق في نهاية الرواية عندما إنحلت الثنائية الضدية: الغياب والحضور بانتصار الجانب الحسي والدنيوي في الدمج بين دفوف ( رابعة العدوية) وسنطور(قبس)، حيث اكتشف البطل وحدة الأضداد في شخصية حبيبته الواقعية التي غمرته بالحب والروحانية معاً. إذْ يشعر لأول مرة انه قد تحرر من معتقل عينيها:
” سرت قشعريرة في جسدي وقواي. ” (ص 168 ) ، وبأنه، كما حدست (قبس) بأنه من خلال هذا اللقاء الحسي والجسدي بينهما قد وصل الى رابعة العدوية، بلحمها، ودمها، ومعانيها .” ( ص 176 ).
ومن الجدير بالذكر : أن معظم الكتابات الصوفية تنطوي على عناصر حضورية تتمثل في اللغة والبناء والتشكيل وعناصر غيابية تتمثل في المعنى والترميز، وهو ما سبق وأن اكده تودوروف، وهو ليس بعيداً عما قاله (فرديناند دوسوسور) في أن الدال يمثل العناصر الحضورية، بينما يحيلنا المدلول الى العناصر الغيابية. وسبق للصوفي المعروف محيى الدين بن عربي وأن قدم تحديداً لمفهومي الحضور والغياب في الخطاب الصوفي ،قريب من هذا التصور. وهذه الرواية، وأعني بها ” دفوف رابعة العدوية ” تحفل بمظاهر هذه الثنائية بوجهيها الصوفي، العرفاني، والحسي الدنيوي معاً، وهو ما يشجع القارئ والناقد معاً لتفكيك شفرات هذا النص الروائي، والوصول الى مكامن العناصر الغيابية في السرد الروائي ورموزه. ومن اللافت للنظر أن الروائي قد حاول مراراً الاحتكام الى القارئ، وربما الى المروي له أيضاً، للمشاركة في حل بعض أسرار السرد. فمنذ الصفحة الأولى يشير الى القارئ والى المروي narratee له معاً:
” لا اريد أن أشغل أحداً معي في البحث عن الأجابة، فلدي الكثير من الأسئلة التي تحتاج الى أن أحسم اجاباتها بالمزيد من التأمل والتفسير .” (ص 5 )
ويبدو لي،وكأنه وهو يروي كيفية تعرفه على ” هذه المرأة” وكأنه يخاطب هذا القارئ أو المروي له :
” منذ سنوات طويلة أعرف هذه المرأة، أستطيع القول أنّا من أصدقاء العمر، .. ومعنى إسمها قبس .” (ص 6 )
ومن الناحية السردية نلاحظ أن بطل الرواية هو الراوي المركزي والمهيمن على حبكتها وحركة احداثها جغرافياً وتاريخياً، أفقياً وعمودياً.كما أن هذا الراوي المركزي يمنح بعض الشخصيات الفرصة لالتقاط خيط السرد، مثلما يفعل عادة مع حبيبته (قبس) التي يشجعها على الحكي ورواية جوانب من سيرتها وحياتها وسر تعلقها برابعة العدوية وبالسنطور معاً، للوصول الى ذرى روحية من الحلول الصوفي بالذات الالهية. ولذا فقد جاء سرد (قبس) في الدرجة الثانية بعد سرد البطل، بوصفه الرواي المركزي الذي يوزع الادوار على الرواة الأخرى، مثلما يفعل ( المايسترو) مع الفرقة السمفونية، كما فعل عندما منح عدداً من الرواة الثانويين فرصاً للتعبير عن وجهات نظرهم منهم (عبيد الخربطلي) الذي ساعده عند الادلاء بشهادة تؤكد عراقية (رعوية) أسرته ذات الأصول البصرية العريقة.
ومن المهم الأشارة هنا الى أن الرواية فضلاً عن كونها رواية (بوليفونية)، تنطوي على تعدد صوتي، فأنها تكشف عن عناصر ميتا سردية من خلال الإشارة الى إحتمالية كتابة سيرة روائية عن تجربة البطل ورحلته البحثية الى البصرة. ففي حوار بين البطل وصديقه علي حسين العلي أشار صديقه الى أنه لو كان مكانه لكتب رواية :
” لو كنت مكانك لكتبت رواية جديدة عنها .” (ص 172 )
وعندما لم يجد صديقه استجابة جادة على مقترحه بادره بالقول:
” أنا اذن سأكتب الرواية، أو سأرويها لزملائي، اصحاب محلات بيع الاطارات الذين يجمعهم الحديث عن رابعة العدوية كل يوم في محلي .” (ص 172 )
لقد حققت رواية ” دفوف رابعة العدوية” مجموعة كبيرة من المعطيات والنتائج المباشرة وغير المباشرة فضلاً عن تقديم الكثير من الرسائل والشفرات التي أطلقتها أمام القراء والنقاد والمؤرخين. اذْ إستطاعت الرواية أن تقدم تاريخاً إفتراضياً جديداً لسيرة رابعة العدوية الروحية، وتربطها بجذر حسي ودنيوي يتعلق بتماهي شخصية “قبس” معها في الكثير من الجوانب الحياتية،فكلاهما عصاميتان، واجهتها الحياة منذ الطفولة بشجاعة وثقة، فقد إضطلعت رابعة العدوية بنت الماضي بعد وفاة والدها، بقيادة الزورق الذي تركه لها أبوها والذي كان مصدر رزق العائلة، لكي تستكمل المشوار وتقوم بنقل الركاب بين ضفتي نهر البصرة آنذاك لتكون قادرة على إعالة شقيقاتها الثلاث. وفعلت “قبس” بنت الحاضر، فعلاً مماثلاً عندما تحملت، وهي صغيرة، مسؤولية إعالة شقيقاتها الصغيرات بعد وفاة أبويها. ولم تقتصر الرواية على تقديم تاريخ بديل بل قدمت سلسلة من الطقوس والعادات الاجتماعية والانثروبولوجية التي كانت شائعة في المجتمع البصري آنذاك. ونزلت الى القاع الاجتماعي للمدينة عند الاطلاع على ازقة البصرة وأسواقها ومحلاتها وبشكل خاص زيارة منطقة ” الحكاكة” المكتظة بصور الجمال الحسي والروحي معاً. فضلاً عن ذلك فقد أعادت الرواية رسم تضاريس خارطة مدينة البصرة القديمة وجغرافيتها وصولاً الى منطقة الزبير ومقبرة الصوفي الحسن البصري،حيث إلتقت تخييلياً برابعة العدوية التي تخيلتها وهي بين اليقظة والمنام تجلس على حافة قبرها وهي تمد رجليها في الهواء. ليس هذا فحسب بل انها قدمت لها الدف الذي إشترته من أسواق البصرة هديةً، ونجحت في النهاية في تثبيت ما اسماه بول ريكور بالهوية السردية narrative identity لمدينة البصرة ، ولذا يمكن أن تنطبق مقولة السرد الثقافي cultural narrative والتي يترجمها معجم مصطلحات النقد الثقافي الذي أعده الدكتور سمير الخليل بالرواية الثقافية أيضاً على رواية ” دفوف رابعة العدوية”. فالرواية هي متحف كامل للعادات والطقوس الاجتماعية وللمأثورات والمعالم الانثروبولوجية التي كانت تشيع في مدينة البصرة في تلك الفترة التاريخية الدقيقة من تأريخ تأسيسها وصيرورتها المدنية. وكما أشرنا في مناسبة سابقة، فالفضل يعود الى الدكتور سمير الخليل الذي انتزع هذا المصطلح من ذخيرة النقد الثقافي وطبقه بشكل ذكي في كتابه النقدي الموسوم ” الرواية سرداً ثقافيا: سيسيولوجيا الثقافة وارخنتها وتسيسها”، كما قدم الدكتور سمير الخليل في معجمه ” دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي” تحديداً واضحاً لمفهوم السرد الثقافي جاء فيه أن الرواية الثقافية هي قصة ترتبط بالعادات والسلوكيات لمجتمع ما، وقد تكون القصة محكية أو مقروءة أو متخيلة ، وقد يكون للقصة الواحدة أكثر من زاوية نظر تمثل كل أو بعض منظورات شخوص القصة .” كما أن السرد الثقافي يقترن الى حد كبير بالمكان حيث أن ثقافة المكان هي التي تتشكل بفعل ماهية السرد”
وبذا يمكن القول أن رواية ” دفوف رابعة العدوية” ثرية بمعطياتها ومعالجاتها السردية ومزاوجتها بين التاريخي واليومي وبين الواقعي والفنتازي. مما يجعلها واحدة من الروايات المميزة التي صدرت حديثاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق