اخر الاخبارقسم السلايد شومنوعات

تهكمية التكثيف في ” كدغلة في فم السراب” للشاعرة الجزائرية مريم بوشارب

تدخل بوشارب بمجموعتها الأولى عالم قصيدة النثر من الباب الكبير

 

تكاد التهكمية تتحول إلى نزعة في الكتابة عند بوشارب..

فهي تنظر للحياة من جهة إنها منطقة اللهو تفتقد لكل ما هو جاد

 

بقلم – عبد الوهاب الملوح / تونس

فضاءات نيوز – خاص 

‏ليس الشعر في أصله إلا شكلاً من أشكال تجريب الوجود واختباره بالفن هذا الفن الذي إنما يتأتَّي من عرق الإنسان الكادح بحثا عن جمال مختلف؛ جمال مجنون هكذا تفتتح مريم بوشارب مجموعتها الشعرية متجرأة على تحديد رؤيتها للفن منذ البدء قائلة:
“سيركع الفن تحت أغصان شجرةِ آدم ليستغفرَ ذنوب الرسامين الذين أبدعوا وجيوبهم فارغة من ثمن الخبز والألوان؛ سـيُصلِّي الأدب يوماً على رُوحِ اللّغة التي عانت من ضَيّاعِ المعنى بين أفواه المجانين.”
فالشعر باعتباره فناً ليس مجرد كتابة أو رهانا لحصان اللغة ولم يكن يوما رؤيا يشكلها الشاعر عن الكينونة بغية إنتاج معنى، فلا يمكن للكتابة أن تصوغ رؤيا عن العالم وكينونته وليس بإمكان قصيدة أن تفعل ذلك ليس لأنها كما نظَّر لها بعض النقاد مقاربة للفلسفات أو سوقا موسيقية قائمة على مزاد علني للبحور؛ فمن النادر أن أتى الترتيب الموسيقى للكلام بشعرية متفلتة؛ لقد استثمر الفقهاء الحد الأدنى من شعرية العرب قبل الإسلام تحت وطأة سلطة الشريعة التي تلغي الشعرية فأبقوا على الجرسية الظاهرة لنسف كل ما يمس من القداسة الألوهية؛ فالشعرية تحد بشري إزاء ظواهر الكينونة الغيبية وهي مواجهة بشرية لمصائرها المعقودة بالفناء؛ لاشيء يجعل من شخص يعرف إنه فانٍ غير أن يتحدى قدره بتجاوزه من خلال تشكُّل إيقاعي يتجاوز الموت، فينحت في الهواء ممرات تخرج به من قباء سيرته المعتادة وتخلده ذكرى من عدم كما تقول :

“تخليد ذكرى”
في أفضل حالاتك،
سيسمّون شارعا أو كنيسة أو مسجدا
أو أي كان بإسمك،
كي تتبرَّز القطط وتتبوّل الكلاب
حتّى يرمي فيه المجانين بقايا وعيّهم،
ويخلعَ عليه السُكارى لعناتِ الآلهة
لتسلِخ فيه النساءُ جِلد الإنتظار
وفي أجمل الأعيادِ سيرتديك السابلةُ طوقاً للذاكرة.”
وهو كذلك ففي أفضل الحالات”سيرتديك السابلةُ طوقاً للذاكرة”
كل المشكلة قائمة في تشكيل إيقاع مختلف والافلات من مصائر مرتبة ولأن الإيقاع أشمل من الموسيقى بما هو كلية جوهرية فهو يطعن في هذه القداسة الألوهية طالما هو قائم على إعادة تشكيل الكون وإعادة صياغة طريقة التفكير في الكون ومنها مراجعة صيغ هذا الوجود باعتصاره واختزال ماهيته، فلا شيء يمنع من إعادة ترتيب عناصر ذات الوجود وتحديد عناصر الهيولة وبالتالي الإمساك بلحظات التكثيف الاوليه واكتشاف ايقاعات رحم الخلق ولهذا سوف تلجأ الشاعرة إلى مقاربة جمالية في أحد نصوصها تستحضر فيه العديد من أسماء الفلاسفة اللامعة بشكل متهكم من جهة إنهم أهملوا الجانب الحيوي في الحياة ألا وهو البعد الحميمي في المرأة هذه المرأة التي هي جوهر الحياة:

 

“في المساء يأتي حطابُ
الغابات الإستوائية
يأوي إلى وجهها المُمّزق
كأسمال الفقراء
يقول:
الطبخ ساحة معركتِك يا امرأة
تعلمي التطريز
اتركي شعرك يطول
تغَّنجي
نامي في الليل باكراً وتدّفئي
ماذا ستفعلين بشوبنهاور
كاره النساء
أو نيتشه الذي يحتقرهن
ما الذي ستقدمه لكِ الديالكتيك
والفينومينولوجيا
لم يعد كانط مُغريا بعد أن اتضحت حكايته مع حبيبته
وهوسرل مجرد أزمةٌ نفسية وانقضت
أما باسكال فلم يكن سوى دجالاً
وكلهم يبحثون عن
عن امرأة
تعلمت فنّ التَقبيل
والتغنج والرقص
يكفيكِ مضاجعةً للورق!
أصبحتِ في هيئتِك مثل
مهبولِ الشارع الخلفي
لذاكرة الطفولة
وأنا..
أريد إمرأة تسليني”
قد يتراءي للبعض من خلال هذا النص أن مريم بوشارب نسوية تدافع عن النظرية الجندرية ضد الفلاسفة الذكوريين، غير إن الأمر ليس كذلك إطلاقا فالشاعرة في الحقيقة تباشر مقاربة شعرية تتسم بشيء من الفكاهة السوداء قائمة على الإعلاء من شأن المفارقة التي هي عنصر أساسي من عناصر الجمالية الشعرية من خلال إيقاع مختلف يتسم بالجرأة التهكمية من أشياء الحياة وذلك في علاقة بتحولات الوعي الاستفزازي لظواهر الوجود كما هو الشأن في هذا النص الآخر :

“أحاول التفلسف موسيقيا”
حين كان طاليس يبحث عن أصل الوجود
تكثفتُ كمزق غيومِ في كبدِ الأسى
واستفاقت كلُّ أنواتي من ثقلٍ بارد
بدأت أتكوّن في رحِم الخواء
وقبل أن تمتد آبارُ التاريخِ
هطلَت خوفاً
فتشكلتْ
سوناتا
سيمفونية
كورس
رباعية
ثلاثية
تاسعة، سابعة
فجأة يصبح لفاغنز وبيتهوفن
أياماً بطعمِ الرماد
لم تعد الموسيقى تنتشلُ أجزائي
مُشظاة أصابع البيانو
التي عزف موتسارت
قُداس الموت يستفيق أيضا
من غُربة أسى
ماذا حلّ بالكون حتى
فقدت النوتاتُ سبيلها للحياة
آسيَّةٌ ورطِبة
مزاريبُ الشقاء
حين يغدوا الألم الجيّد
رفيق السهر
يَهتف سقراط في أذن الفراغ
بكأس الشوكران..”
وتكاد التهكمية تتحول إلى نزعة في الكتابة عند بوشارب فهي تنظر للحياة من جهة إنها منطقة اللهو تفتقد لكل ما هو جاد أو افقدها العيش كل ما هو جاد لذلك تقول في نص بعنوان” كوجيطو الضحكة”
” أنت تضحك كثيرا
أنت حزين!
تُربي الضِحك الراديكالي
على حوافِ القلق
داخل أغشية مطاطية
للضجر
أحبالك الصوتية
تلامس ظلال الوقت
مختنقة بهستريا اللحظة
تتجشأ الصمت بين فكرتين
بينما تقطر من عينيك أيامٌ
من
الوجع
الـ
الجهنمي ..”
يعطي هذا الأسلوب في الكتابة الانطباع أن الشاعرة تمتلك وعيا بالعالم جعلها تكتشف أنه قائم بالأساس على التفاهة والتسطح وهو ما دفعها إلى الاعتماد على قاموس لغوي سائل مجلوب مما هو يومي وفي نفس الوقت ممزوج بما هو فلسفي وهو ما أحدث مفارقة بارزة في العُدَّة اللغوية لهذا النص بما شكل إيقاعية مختلفة؛ وامتلاك هذا النوع من الإيقاع يعني تملّك الوعي بالتكثيف؛ وعي شعري بمكامن الجمال اللامرئية والكامنة في داخل الذات وفي تفاصيل الحياة القصية، وعي قائم على التحول وعدم الإستئناس بيقينية هذا الوجود من خلال تكثيف اللحظات وتحويلها إلى ديمومة كما هو الشأن في هذا النص :
“أمسية يومِ الماء
بتوقيع الضوء
قُمت بتقشيرِ رأسي
كل المواضيع تافهة
السياسة حِكرٌ وإحتكار
الفيزياء إلكترونٌ موّزع على كرّة الكون
الأدب يرتدي اللغة مقياس تصبّرٍ ورثاء
الرياضيات تمتد كخط الإستواء بين مشرقين
الكآبة تُقرأ بمدِ الألف را
مر
مر يم،
الكآبة تُقرأ بمدِ الألف رازحة تحت إبطِ السأم
الندم يرتدي نظارات طبيّة لفحص ذراتِ الخطيئة
وأنا مللتُ
ههنا، أؤبّنُ إسمي وأشيّعُ هويتي
على حواف فنجان القهوة
كُلّ صباح
أسرقُ الخمرَ من جنوني
وأسكرُ بالوعيّ
ولا أجدُ رأساً يرتدي أهوال خوفي
من البقاءِ على متن قاربٍ
يحلمُ بالبحرِ وهو قيدَ الإنشاء.”
ونفس الشيء مع هذا النص أيضا واغلب نصوص مجموعة كدغلة في فم السراب
” خوف
اشتقتُـ ـك
كهديل حمامٍ خائف!, أخاف أن لا تعود.
أخاف أن أعتنق الحزن فيكَ ديانة
وأجدّف بحضورك!
أخافـ ـنِي وأخافُ المسافةَ والصمت
وأخافُـك.”
فدور الشعرية أن تزيد في تعميق سؤال الارتياب الذي يصدع يقينية هذا الوجود المنتج الزائف لتفكير عاطل؛ ولقد أثبتت تجارب قصيدة النثر إنها تعمل على عدم اختصار الوجود في ثنائية بررتها الأسطورة بالخير والشر واختصرتها الاديان في الحلال والحرام بل في اختبار كلية هذا الوجود من حيث أنه في الأصل عدم وليس هناك سوى اللغة إدراك متعال فهي بمختلف انزياحاتها تسعي لتشييد ايقاع لا ركائز له ولا تيمات ميتافيزيقية إيقاع ينهل من سلطة البياض وتكثفات الفراغ؛ ينهل من إيقاع تحيرات الذات البشرية في سياق التغيرات التي يرهص بها الواقع ومقاربة هذه التغيرات بالتهكم القائم على التكثيف بما يمنحها بعدا جماليا؛ تلك الجمالية المُدركة عن طريق الوعي الشعري ذلك الوعي الشعري الذي لن يتحقق إلا عن طريق القدرة علي استيعاب إمكانية التكثيف، تكثيف قائم على قدرة اختراق العتمة والافلات من أي سلطة، التكثيف بما هو حالة انفلات وفي نفىس الوقت تملك؛ وكيف أمكن لقصيدة النثر ؛ وليس فقط باختبار اللغة السليمة بل الفهم الدلالي المكثف للغة؛ ليس فقط التكثيف بل القدرة على استثمار التكثيف وليس فقط لتجنب الإيقاع الجرسي بل كيفية تكثيف الإيقاع من خلال إنقاذه من الموسيقى.
تدخل مريم بوشارب بمجموعتها الأولى هذه “كدغلة في السراب” عالم قصيدة النثر من الباب الكبير لكن ليس لتطأ أرضا معهودة بل لتحفر في اراض مجهولة فيها من خلال المقاربة التهكمية القائمة على التكثيف وإنما هذا وجه من وجوه الشعرية عندها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق