اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

” جَنتْ عَلى نَفسها بَراقش ” !! ” للكاتبة السورية كاتيا نوفل اسكندر

 

نص – كاتيا نوفل اسكندر 

شَارع ” الجلاء “، الشَّارع الذي يَرميك بِالملعب البلدي ” ملعب الباسل” إِنْ كُنتَ رِياضيِّاً مَهووساً، أَو يَقذِفُكَ إِلى مَحطات الانتظار الإِسفلتية، إِن كُنتَ طَالِب لِلعلمِ،أَو المال، إِن كُنتَ فَقيراً،مِسكيناً، صُعلوكاً، أَو عَائِلاً لفردين وحَتماً لِأَكثر..
قَررّت السّير عَلى القَدمين ، فَوجهتي هي ” كَراج الفاروس “
وشمسُ دِيسمبر لَذيذة ولا تُفوت، فَلا مَانع مِن التّمتع قَليلاً بِدفئها، وخَلقُ مِشوارٍ عَلى رَصيف” شَارع الجلاء” الذي دَوماً مَا يَحتاج لِكوب بضعف الحَجم مِن قَهوة الطَّريق،وَ سيجارة لَفٍّ عَربية أَربحها بِحجَّةٍ أَنَّيَ سَأشتري ومن حقي التّذوق والتَّجربة، فَلا أنا أَشتري ولا البائع يَبيع، وأَميلُ بِخصري النَّحيلِ كَغزالٍ شارد مِن بائعٍ إِلى آخر، لأَربح المَزيدَ مِن اللُفافات المَحشوة بالتَّبغِ مَجاناً،فَأجلسُ فِي مَجامِعهم التي لا تتعدى تَرابيزةً تَسندُّ مؤخِراتَهم الغَليظة، وَفليّنٌ أَبيضٌ مُستطيلُ الحَجم، يعرضون عَليهِ تُبوغهم الخَفيفة، والثقيلة، بِأكياسٍ سوداء اللونِ دَوماً، (١٥) سَنة، وهناكَ على الطّرفِ الأَيسر، فِي المِكان ذاتّهِ، فِي بِدايةِ شارعِ الجَلاء، وأنا أَرى ذَات الوجوه، أُراقب ذات المَادة، المادة البنية ذات الرائحة الثقيلة، التي أَعتقد أنها الوحيدة التّي لَم تَتغير، ولكن نَحنٌّ مَن تَغيرنا،فَاعتّدنا عَلى التَّعتيرِ فِي بَلدنا، ولم نَعتد عَلى اختلاف طَعمة السجائر التي لازالت ذاتها، لكنَّ ألسنتنا وما تحتّها، وما اختبأ مِن ملافظ نَخشى انشطارها خَارجاً هَو السبب فِي الظَّن إِن المذاق قَد اختلف،وهو فِي الحقيقة واحدٌ فَوقَ حُليماتنا لِكنَّ الزَّمن مُختلف تماماً، أُنهي حَديثي القَصير مَع وجوه البائعين البائسة، التّي أَكل الدَّهرُ مِنها إِرباً، وأجتثَّ العمرُ سَعيرها واطفأهُ، لِأحملَ بَعضي وأَهربَ بَعيداً عَن مجالسهم، ورائِحةِ الجوعِ المُتعفنة تَحت إِبطهم، عَن عُيونهم اللَّزقة، وتلافيف أعنقتهم المُتآكلة،فَلا كَاتيا تَقوى، ولا قَلبُ كَاتيا يَقوى، عَن خَلقِ حَديثٍ مَفادهُ يَتعدى “صَباحك خِير وفرحة يا عم.. الله يعطيك ليكفيك لفلي سيجارة ..اطلع الجو حلو اليوم..شمس كَانون عم تهلهل بالأُفق..شكلو هالدخان طَيّب” فَابتعد كُلَّ البُعدِ عَن أَيٍّ جُملةٍ أَو كَلمة، سَتقفزُُ مِن بَعدها أسماء أولاد أولئك الرّجال الجياع فِي المنزل، والمحرومين من الإنسانية، وهم أنسان، لِأهُرب مِن آهاتهم المُعلقة فِي تُفاحهم، وهم متعبون من عَشر سَاعاتٍ مُتتالية قَد قَضوها فِي الطّرف الأَيسر، مِن غبار رصيف شارع ” الجلاء”، فَأسيرُ مُنهيّةً رَشفةَ كُوب قَهوتي الأخيرة،لإِركُلهُ بِساقي النحيلة فِي منتصف الشارع، عَلى غير عادتي التي لَطالما كَانت تَدفعني بكلٍّ حُبٍّ لأرمي أي كوبٍ،مَحرمة، أو ورقة، فِي سلّةِ القُمامة،لكن لا الشّارع، ولا البلد، ولا الدولة، تَستحق فَعلة النّظافة هَذه،فَأسير وَأسير، لإِنتقل بَعد أشجار الكِينا العالية ، إلى القِسم الأَخر مِن فاجعة الإنسان، الذي يَعتقد أنّه حَيٌّ، وإنسان، حَيثُ
هُناكَ كُهول، رِجالٌ اجتازوا عَقدهم الخَامس، السادس، ومنهم حَتّى السَّابع، يَعرضون على أَشوِلةِ خَيّشٍ مُهترئة بَازاراً مُتنوعاً مِن كُلٍّ مَا يَخطرُ عَلى البال ” مِفتاحُ رنشٍ صَدأ، مرآة مَكسورة، مَسامير أَزلية، سَاعات اُُستُعمِلَت قَرابة المئة مرّة قَبل عَرضها للبيع، مَسابح قَديمة، أباريق، ودلّاتٌ عَريقة، قِطعُ أَثاثٍ بَسيطة، مَجلات وكُتب طُبعت سَنّةَ الثمانينات” كُلُّ هَذا وأكثر، لِأصل إِلى آَخرِ كِيس خَيّشٍ حَيثُ الرُّجل الأخير، حَيثُ اللحية البيضاء، والشامات المتوزعة بِصخب عَلى زاويا الوجه، حَيثُ الظهر المنحنية، والنّحل البارز مِن قِلة الإمداد الغذائي، حَيثُ الرَّجل الأخير الذّي يَعرض سَراويلهُ، ومَعاطف زَوجته، وأحذية طِفله البُكر، وستّرةَ ابنتهِ، وَكعبها فِي مَوعدها الغرامي الأوّل والأخير للبيع!!!!!
هُنا فِي شارع ” الجلاء” حَيثُ نَبيعُ مَلابسنا ” سُتيانُ الدخلة، سُروال المدرسة، حِذاء أول راتب، قُبعة شِتاء ديسمبر الماضي، سُتّرة “قُدّمَت كَهدية مقابلَ رَغيفِ خُبزٍ أَبيض..لنعيش كَإنسان..كإنسانٍ فَقط!!!!
هُنا فِي مُنتصف شارع ” الجلاء”
تَرى الكُهول المُتعبة تتناثر عَلى الأرصفة، هُنا تَرى أضافرهم صَفراء، وأبدانهم صَفراء، وعيونهم صَفراء، مُتعطشة، مَسعورة، مُنهكة، مَخذولة، هُنا فِي شَارع “الجلاء” وفِي كُلٍّ شَارعٍ مِن شوارع “الدولة”…
لِألعن قَدمي، وَشمس دَيسمبر، ودفئها والقهوة، والسجائر، والولاعات ” فَقد جَنت عَلى نفسها براقش”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق