اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

المسرح أداة لبث الـوعي الفكري وتنمية القدرات العقلية

 

بقلم: الناقد لطيف عبد سالم
يُعَدُّ المَسْرَحَ الذي يُسمى بأبي الفنون، من أعمدةِ البنية الثقافيَّة المهمة التي يعول عليها في بلورةِ الرؤى التي بوسعها المعاونة بأسلوبٍ مُتظافِر ومُنَسَّق في تعزيزِ المساعيَّ المعنيَّة بالمعاونةِ في تصحيحِ ما يكتنف المُجتمع من مساراتٍ خاطئة، بوصفه وسيلة إعلاميَّة بمقدورِ نشاطاتها -التي تحمل أهدافًا تربويَّة، أو أخلاقيَّة، أو أمنيَّة، وحتّى سياسية- الارتقاء بالمتلقي إلى المستوى الذي يجعله مؤهلًا للمشاركةِ الفاعلة في تعزيزِ آليات الحلول المطروحة لمعالجةِ مُشكلات المُجتمع. ولعلَّ ما حملته العديد من مسرحياتِ الفيلسوف والأديب الايرلندي الشهير جورج برنارد شو (1856 – 1950 م) من محاورٍ لعلاجِ أمراض المُجتمع خير مصداق على ما تقدم. ويشير الباحثين إلى أنَّ الفنَ المَسْرَحيّ يتميز بالموالفةِ ما بين عناصر فنيَّة متعددة، فضلًا عن تكيفه وتوافقه مع كلِّ الثقافات، والعصور؛ بالنظرِ لتعاظمِ الأهداف والمقاصد التي يؤديها، والتي جعلت منه فضاءً فاعلًا في مهمةِ التعبيرِ عن الهويّة الثقافيَّة المميزة لأيِّ مُجتمعٍ من خلالِ مرونةِ أدواته، ومتانة وتطور آلياته التي ترتكز على البحثِ في عاداتِ المُجتمع، وقيمه، وأفكاره، وطموحات أفراده.
بخلافِ ما يسود في أغلبِ الأحوال من تصورٍ عن كون المَسْرَحَ مجرد وسيلة للتسلية، أو الترفيه، أو المتعـة، يرى المتخصصون أنَّ المَسْرَحَ مظهرٌ حضاريٌّ يرتبط بتقدمِ الشعوب ورقيها؛ لفاعليةِ دوره في مهمةِ التأسيس لأجيالٍ قادرة على اكتسابِ المعرفة، بفضلِ تأكيدِ العروض المَسْرَحيَّة على ترسيخِ القيم التربويَّة، والعمل على رسمِ معالم الهوية الوطنيَّة، وسبل الحفاظ عليها، فضلًا عن تأثيرِ غيرها من انعكاساته التّنمويّة في الوسطِ الاجتماعيّ، ما يعني أنَّ خَشَبةَ المَسْرَح تُعَدّ في مصافِ الأدوات المهمة المعنيَّة ببثِ الـوعي الفكريّ، وتنمية القدرات العقليَّة، إذ إنَّ من جملةِ مهمات المَسْرَح في العصرِ الحديث بحسبِ العديد من أصحابِ الشأن والاختصاص: “أنَّه أُصبحَ أداة لتحفيز الشعوب على الثورة ضد الاستعمار، أو الظلم مثلما صنع الكاتب والمخرج المسرحي الألماني بريخت (1898 – 1956 م) في مَسْرَحه الذي عرف بـاسم المَسْرَح الملحمي “. ويمكن الجزم بأنَّ النجاحَ في المنحى المذكور مرهون بما تبذله الإدارات من إجماليِّ الجهود المعبرة عن تحمّلِ مسؤوليات الإدارة، إلى جانبِ إدراكها أهمية المَسْرَح في الترويجِ للخطابِ الرصين الذي يعكس النمو والرفاه والمساواة، وغيرها من مقتضياتِ النهوض الاجتماعيّ؛ بالنظر لكون المَسْرَح من القنواتِ المؤثرة التي تُعنى بتسويقِ الأفكار والمفاهيم التنويريَّة، فلا عجب أنْ تسعى الإدارةَ المَسْرَحيَّة بشكلٍ دائم إلى تعزيزِ الجهود الرامية لإثارةِ الأدباء، وتحفيز الفنانين من أجلِ إعدادِ وإخراج وتنفيذ العروض المسرحيَّة التي من شأنها كشف الغطاء عما يجرى في المُجتمع، فالمَسْرَح بحسبِ بريخت: “رسالة اجتماعية وسياسية لابد أن يستفيد منها المشاهد، وأن ينعكس هذا على تصرفاته حيال القضايا الاجتماعية التي تواجهه”.
وإثباتًا لما تقدم، يمكن التمعن بواحدةٍ من معطيات التجربة الألمانيَّة بعد أنْ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945 م، والتي تدلل على أنَّ المَسْرَحَ – الذي يحتل مرتبة مهمة في الحياة اليومية بدولِ العالم المتقدم – من بين الْفُنُون الأدبيَّة الأدائيَّة التي تشكلُ دعامةً لمؤسسةٍ تربويَّة، وثقافيَّة تهم جميع الشرائح الاجتماعيَّة، إذ مثلما قام المَسْرَح بمهمةٍ كبرى في تعبئةِ المشاعر لمقاومةِ الغزو النازي، شهد عام 1946 م شروع القيادات الإداريَّة الألمانيَّة التي تولت إدارة البلاد في أعقابِ انهيار النازيَّة بافتتاحِ مَسْرَح (العالم الفني) في مدينةِ لايبزج، والذي يُعَدّ بحسب المتخصصين في شؤون المسرح أول مَسْرَح للأطفـال. وتحضرني في هذا الإطار مقولة (توماس ديكنسون) التي تعكس ضرورة توافق مهمة المَسْرَح مع الوعى السياسي والاجتماعيّ الذى اجتاح ألمانيا القيصريَّة بعد هزيمتها في الحرب، والتي مفادها: “بعد الحرب ظهر دافع جديد في ميدان الخلق المسرحي، دافع بدأ يجعل المسرح أداة في يد الطبقات المغبونة، وانتهى بجعله أداة للثورة الاجتماعية.. يجب علينا الأن، أن ننظر إلى المسرح لا باعتباره أداة لترفيه الشعب، بل لتعبئة إرادتهم، لخدمة قضية محددة”.
يبدو جليًا أنَّ لجوءَ القيادات الإداريَّة الألمانيَّة إلى اعتماد الإجراء المذكور، يعود إلى القناعةِ بأنَّ المَسْرَحَ من التدابيرِ المهمة والمناسبة التي يمكن استثمارها، وتوظيفها في مهمةِ تفعيل التحولات الاجتماعيَّة صوب مشروع بناء الدولة المدنيَّة الحديثة، إذ تتجسد الغاية من هذا التوجه في كونه أداة عمليَّة في أيدي الإدارات، من شأنها المُساهمة في إرساءِ متطلبات تعزيز المسار نحو البناء المُستدام، عبر دعم البرامج المرتبطة بشكلٍ مباشر بأهدافِ التنمية المستدامة، والتي يعول عليها في بلوغِ جملة من الأهدافِ الإنمائيَّة التي كانت الحكُومة -التي أقيمت على أنقاض هزيمة حكومة الرايخ في الحرب- عازمة على تحقيقها، والتي في المقدمةِ منها: السعي لمحو الذِكريات المؤلمـة التي خلفتها الحرب، ولاسيمّا آثارها المتأججة داخل نفوس الأطفال، فضلًا عن المُساهمة بشكلٍ فاعلٍ في محاولةِ توفير المتطلبات الأخرى- الفنيَّة والإنسانيَّة- التي تؤهلهم لتحملِ أعباء الحياة الجديـدة. وهو الأمر الذي يؤكد رفعة مكانة المَسْرَح، وأهميته كمنبر ثقافيّ في زيادةِ نسبة وعي أفراد المُجتمع بما يمس نمط حياتهم.
تجمعُ أغلبَ المصادر والأدبيات المتخصصة على أنَّ الربعَ الأخير من القرنِ الماضي يمثل البداية الحقيقيَّة للنشاطِ المَسْرَحيّ في العراق، والذي أثمر عن بزوغِ العديد من القاماتِ المسرحيَّة السامقة التي تركت بصمة مضيئة في التجربةِ الفنيَّة العراقيَّة بمجملِ مناخاتها الإبداعيَّة، بعد أنْ جهدت في تحقيق طموحاتها، مستعينةً بالعزم، والإخلاص، والمثابرة، والمهارات الإبداعيَّة، فضلًا عن تميزها بحسنِ الأداء، وإذكاء روح المنافسة الشريفة، فكان أنْ خرجت من معاطفِ تلك النخبة العديد من الأعمالِ المَسْرَحيَّة الرصينة التي أثرت المشهد الثقافيّ العراقي بإنجازاتٍ إبداعيَّة مُبهرة، أفضت إلى تطويرِ الأداء المَسْرَحيّ، وإبراز العديد من الطاقاتِ الفنيَّة، بالإضافة إلى مُساهمتها في تنميةِ وتعزيز العقل الثقافي.
ما أظننا نغلو فِي القولِ إنَّ ذاكِرةَ الجمهور المحليّ تختزنُ العديد من الأسماءِ الفنيَّة اللامعة التي قدمت جهودًا مَسْرَحيَّة مُثمرة، ساهمت في إنعاشِ الحياة الحركة المَسْرَحيَّة العراقية بشكلٍ لا يمكن إغفاله. ولعلَّ من بين رموز الفن العراقي التي تُعَدّ دعامات أساسيَّة في مسيرةِ المَسْرَح العراقي، والذين شهدت خشبات المسارح المحليَّة صولاتهم وجولاتهم، وتركت اعمالهم بصمة جميلة وواضحة في الدراما العراقيَّة، فضلًا عن أنَّ بعضهم مَثَلَ العراق في المسارحِ العربيَّة والدوليَّة: حقي الشبلي، يوسف العاني، أسعد عبد الرزاق، عوني كرومي، خليل شوقي، زينب، زكية خليفة، صلاح القصب، إبراهيم جلال، بدري حسون فريد، ناهدة الرماح، سامي عبد الحميد، جاسم العبودي، قاسم محمد، سليمة خضير، مي شوقي، جواد الاسدي، روناك شوقي، فاضل خليل، راهبة المَسْرَح العراقي آزادوهي صاموئيل، والقائمة تطول وتطول.
من المعلومِ أنَّ بلادنا شهدت ظهور العديد من صالاتِ العرض المَسْرَحيّ، ولا سيمّا التي فتحت أبوبها للجمهورِ في ثمانينات القرن المنصرم مثل المَسْرَح الوطني، مَسْرَح الرشيد، مَسْرَح المنصور ومَسْرَح الخيمة، إلى جانب مجموعة من الصالاتِ التي أنشأتها الفرق المَسْرَحيَّة الخاصة. ويُعَدّ مَسْرَح الرشيد الذي افتتح عام 1981 م من أهم وأكبر صالاتِ العرض المَسْرَحيّ في العاصمة بغداد، إذ قامت بتصميم مبناه المكون من تسعة طوابق، وصالة عرض تتسع لحوالي (700) شخص إحدى الشركات الفرنسيَّة التي ضمنته قاعات كبيرة للأزياء، والإكسسوار، والملابس المخصصة للممثلين، ومعدات خاصة بالحيلِ المَسْرَحيَّة التي صممت لتقديم أكثر من مائتين من المؤثراتِ الصوتيَّة والبصريَّة. وما يحزُّ في النفس، ويبعث على الأسى والأسَف البالِغَين، أنّ يكون هذا الصرح الثقافيّ المميز بطرازِ بنائه المعماري الجميل من بين الأهداف التي دمرتها القوات الأمريكية أثناء العمليات العسكرية عام 2003 م. ولعلَّ ما يثير العجب أنْ تتغافلَ إدارة الثقافة ممثلة بدائرة السينما والمسرح مهمة إعادة إعمار هذا المَسْرَح الذي يشكلُ ثانيَ أكبر تحفة معمارية في الشرقِ الأوسط، إذ كان بوسعها -على سبيل المثال لا الحصر- استثمار الوفرة الماليَّة التي حظيت بها مناسبة تنظيم وزارة الثقافة فعاليات (بغداد عاصمة الثقافة العربيَّة) عام 2013 م؛ لإعادةِ الحياة إلى أروقتهّ التي أصبحت بفعلِ الإهمال ملاذًا آمنًا للطيور.
جدير بالإشارةِ أنَّ مَسْرَحَ الرشيد -الذي أعيد افتتاحه عام 2016 م بمناسبة (اليوم العالمي للمسرح) بمبادرة تطوعية أقدم عليها مجموعة من الشباب المسرحي سعيًا لتأهيله، بإمكانياتٍ متواضعة في ظلِ غياب الدعم الحكومي- شهد افتتاح أربع دورات لمهرجانِ المَسْرَح العربي، وخمس دورات لمهرجانِ المَسْرَح العراقي، فضلًا عن تضييفه المخرج السينمائي المصري يوسف شاهين الذي وصلت شهرته إلى العالميَّة، وعُرف بأعماله المثيرة للجدل، حيث جرى عرض أهم أعماله الفنيَّة، مثل فيلم (إسكندرية ليه). ويضاف لذلك احتضانه عشراتِ العروض المَسْرَحيَّة المحليَّة والعربيَّة، إلى جانبِ اِعتلاء كبار الفنانين العرب خشبته، والذين من بينهم: فريد شوقي، حسين فهمي، نور الشريف، الطيب الصديقي وبهية السينما المصريَّة محسنة توفيق. ولعلَّ خير مصداق على ما تقدم هو أنَّ الفنانَ الراحل نور الشريف أبهرته بناية مَسْرَح الرشيد حين زار الوفد المصري الذي كان أحد أعضائه بغداد للمشاركةِ في مهرجانِ المسرح العربي، حيث علق حينها قائلاً: “في ستينات القرن الماضي كانت السينما المصرية توازي السينما الأمريكية من حيث الإنتاج والتقنيات، لكن تجدد التقنية لدى الجانب الأمريكي جعل لها قدم السبق على السينما المصرية، ولو كنا نمتلك صرحًا فنيًا مثل مسرح الرشيد وما يحتويه من استوديوهات متخصصة، أقولها، وبكل ثقة، لتفوقنا على السينما الأمريكية بأشواط عدة”!.
خلاصة القول إن اختزالَ بناية مَسْرَح الرشيد، التي تُعَدّ إحدى دعائمِ البنية التحتية للمَسْرَحِ العراقي من قائمةِ برامجِ البناء والأعمار، يُعَدّ إهمالًا لأحِد صروحنا الثقافيـــَّــة التي ما يزال وسطنـــــا المَسْرَحيّ بحاجةٍ إلى تعزيزِ وتطوير قدراتها؛ لأجلِ المُساهمة بإعدادِ أجيالٍ مَسْرَحيَّة بمقدورها العمل على إشاعةِ ثقافة مجتمعيَّة سليمة.
لأنَّ وظيفة المَسْرَحَ الجاد تعنى بترسيخِ الثوابت الإيجابيَّة الصالحة كالقيميَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة، بوصفه إحدى أدوات التغيير التي يعوَّل عليها في نشرِ المبادئ الإنسانيَّة، وبث الوعي السياسي والاجتماعيّ، ومن وحيِّ مقولةَ بريخت الشهيرة التي نصها: (أعطني خُبزًا ومسرحًا، أعطيك شعبًا مُثقفًا)، نأمل أنْ يظهرَ في أفقِ القـــــــادم من الأيامِ ما بوسعه أنْ يعيدَ إلى مَسْرَحِ الرشيد بريقه، ويجنبه آلامَ شيخوخته الراهنة؛ لأجلِ المساهمة بالشكل المأمول في إثراءِ المشهد الثقافي العراقي بالمتعةِ التي تستند إلى الذوق الفني السليم، إذ إنَّ الخشيةَ من أنْ يجرفه الإهمال، ليصبحَ بعدها أثرًا بعد عَيْنٍ، ما تزال تُخيم على الأوساط الأدبيَّة والفنيَّة، وتُلقي بظلالها على كلِّ مفاصل الحركة المَسْرَحيَّة!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق