ثقافة وفنون

الأفكار والفلسفات… والمعتقدات.. في حضارة وادي الرافدين

علاقة الإنسان بالإِله

.

فضاءات نيوز – د عبد الوهاب رشيد

تشكل علاقة الفرد بالإِله مجالاً موضوعياً لبحث المعتقدات الدينية لوادي الرافدين والتي تقوم على أن الآلهة خلقت الكون- البشر، فهي خالق كل شيء، وموجه كل شيء، ومنفذ كل شيء، وموحٍ بكل شيء قبل حدوثه. عليه اعتبرت سلطات الآلهة غير محدودة على الإنسان. وينضوي تحت هذه السلطة الفلاح والملك على السواء. من هنا تطلع القوم إلى آلهتهم تطلع العبد لسيده: بخوف ومسكنة، وبرهبة وحب وإعجاب أيضاً. ويمكن ملاحظة الموروث التاريخي للنصوص المسمارية الذي يؤكد هذا الاعتقاد في كافة مجالاته. إن الوثائق السومرية- الآشورية- البابلية، بعامة، تميزت بطابعها الديني. فالنصوص الطبية كانت تنظر للأمراض باعتبارها عقابا إلهيا نتيجة الذنوب التي اقترفها المريض، لذلك فليس هناك دواء لا يتضمن استخدام الصلاة والطقوس الدينية. كذلك فيما يخص النصوص الفلكية بحكم اعتقاد القوم أن النجوم تمارس نفوذاً حقيقياً على الإنسان. وتحمل النصوص التجارية قدراً واضحاً من الصبغة الدينية، فالعقود تبدأ فاتحتها باسم الآلهة وتختم في نهايتها بالقسم باسم الآلهة، كما أن قرارات القضاء ترتبط بالآلهة وتبتهل إليها. ويتضح الطابع الديني أيضاً في الأدب بمجالاته المتنوعة والتي تنسب كل حدث إلى إرادة الآلهة. فالإِله هو الذي أوحى للملك إعلان الحرب وتحقيق النصر، وأن الملك بنى المعبد بناء على إرادة الآلهة.. يقول آشور بانيبال- الملك الآشوري “لقد قطعت أوصال أعدائي وألقيت بهم إلى الوحوش الكاسرة لتأكلهم. وحين انتهيت من ذلك، انشرح قلب الآلهة العظام، 
ولأِن الآلهة خلقت الإنسان لخدمتها وطاعتها، عليه أصبح من الخصال الحميدة والعظيمة للقوم بدءاً بالملك ولغاية عامة الناس إطاعة إرادة الآلهة. وبينما كان الاحتفال بالأعياد المتنوعة وأداء الطقوس الدينية من اختصاص الكهنة- المعبد، فإِن إرسال النذور والقرابين للمعابد وحضور الاحتفالات الرئيسة والتقيد بالتعاليم العديدة والابتعاد عن المحرمات الكثيرة من واجب كل إنسان، الذي وجب عليه أن يكون خادماً مطيعاً لتعاليم الآلهة حتى يتجنب غضبها وعقابها وانتقامها منه ومن عائلته.. غير أن من الخطأ الاعتقاد أن دين وادي الرافدين كان مجرد دين رسمي أو مجرد تعاليم تقوم على الخوف والرهبة، بل كان كذلك دين عقيدة وقناعة ورغبة. فعندما تُقام الصلوات وتنشد التراتيل في المعابد، كانت تتألق المشاعر المرهفة وتنفجر العواطف الصادقة نحو الآلهة. “لقد وضع سكان ما بين النهرين كل ثقتهم بِآلهتهم واعتمدوا عليها كما يعتمد الأولاد على آبائهم، ويحدثونها كأنها الآباء والأمهات لهم التي من شأنها أن تستاء فتبطش والتي يمكن أيضاً استرضاؤها فتغفر لهم المعاصي والذنوب. لقد “عاش السومريون وورثتهم في الديانة كما يعيش السمك في الماء”. كانت تعيش في داخلهم, تزودهم بالأوكسجين الروحي والفكري(3).
وإذا كانت النذور والقرابين والالتزام بالتعاليم والطقوس الدينية واجبة على كل فرد، لكنها لم تكن كافية لنيل عطف وبركات الآلهة، لأِنها تتطلب كذلك سلوكاً اجتماعياً قويماً: أب طيب، ابن بار، مواطن صالح يدعو للمعروف وينهي عن المنكر. وفي نص سومري زاخر بالتعاليم الأخلاقية يقول: “لا تكذب وقل قولا طيباً، لا تتكلم بالشر، وقل الخير، لا تلفظ كلام قلبك حتى لو كنت وحيداً، وإذا تكلَّمت بعجلة فستعيد ما قلته، وحتى تسكت يجب أن تمسك بِأعصابك(4).” وهي مواصفات تُعبِّر عن القيم الاجتماعية- الأخلاقية السائدة حتى الوقت الحاضر في المجتمع البشري المعاصر، بعامة، وفي المجتمعات الأبوية بخاصة.. وتوصي واحدة من نصائح الحكمة البابلية بقولها: “اعبد كل يوم آلهتك، واظهر العطف للضعفاء، قم بالأعمال الصالحة، وقدم العون في كل أيامك، لا تشهر بالآخرين وحدث بالحسنات، لا تقل أشياء خبيثة، وقل للناس قولاً جميلاً.” ويؤكد Jacobsen أن الحياة المثالية للفرد تميزت بـ: الإذعان والطاعة.. وذلك في سلسلة تراتيبية من السلطة: الأُخت الكبرى، الأخ الأكبر، الوالدين، مراقب العمل، القاضي، الملك، الإله الشخصي على طريق الآلهة العظام وإله السماء. وهذه المواصفات كانت مطلوبة للشخص الصالح لينال رضا مجتمعه وآلهته .
مقابل طاعة الفرد وإيمانه الصادق وسلوكه القويم، تُقدم الآلهة له الحماية ساعة الخطر، والعون عند الطوارئ، والمساعدة عند الحاجة، وتهبه الصحة الموفورة والمركز الاجتماعي المشرف والثروة والأبناء الكثيرون والعمر الطويل.. إلا أن معادلة (طاعة الآلهة = حياة سعيدة) لم تكن القاعدة ولم تكن شائعة عملياً.. فهناك حالات عديدة تمت فيها معاقبة أتقياء على نحو غير مفهوم . من هنا ثار سؤال وجيه: كيف يمكن أن يحدث كل هذا والآلهة “الحكيمة” تُسيِّر العالم؟ وكيف يمكن أن يسود الشر على الخير في حياة بعض الأتقياء؟.. وكان جواب الكهنة أن الآلهة نفسها لم تخلُ من صفات شريرة عندما اتبعت طريق العنف والبطش خلال المراحل الأولى من خلق الكون (ملحمة الخليقة). ورغم أن القوم لم ينسبوا لآلهتهم القداسة المطلقة، واعتقدوا بإمكانية أرتكابها للأخطاء، فهذا لم يمنعهم من التوجه نحوها باعتبارها حراساً للعدل.
ومن هنا أيضاً، تصوروا أن الكون تسيره منذ البدء نواميس إِلهية لا تتمثل في عنصر الخير حسب، بل كذلك بعنصر الشر. فهما من مواصفات الإِله والإنسان (المخلوق من دم إِله شرير) معاً. وإذا قبل المرء هذا التعليل عندئذ له أن يسأل سؤالاً آخر: لماذا لا يكون الشر من نصيب الأشرار والخير من نصيب الأخيار؟.. كيف يمكن أن يصيب البؤس والحرمان تقياً ورعاً في حين يرفل الآبق والظالم بالغنى والعيش الرغيد؟. ولكن من ذا الذي يعلم كنه الآلهة؟ فحسب تعبير الفيلسوف البابلي:”إن ما يبدو للمرء ممتازاً هو إساءة للإِله، وما يبدو خسيساً في قلب المرء هو ممتاز عند ربه .ورغم أن الإجابة النهائية للكهنة هي أن التمسك بالتقوى هو طريق النجاح والسؤدد والصحة والسعادة، وأن الخير سينتصر في النهاية على الشر، وأن على المتعبد المبتلي في حياته أن يصبر ولا ييأس من رحمة الآلهة وعطفها. يبقى الشك والحيرة واليأس وليدة هذه العقيدة. ففي قصيدة سومرية بعنوان (رجل وربه)، وهي تسبق التوراة بِألف عام، نشره (كريمر) في كتابه- التاريخ يبدأ من سومر، يسأل الرجل المعذب إِلهه بجزع:
“يا إِلهي النهار يسطع بنوره على الأرض
أما أنا فيومي مظلم
الدموع والحزن والضيق واليأس تسكن أعماقي
والمصير السيئ يمسك بيدي وينتزع أنفاسي
والحمّى اللعينة منتصر على جسدي
يا إِلهي أيها الرب الذي خلقني، أنقذ وجهي
إلى متى تهملني وتتركني دون حماية
وفي قصيدة (الصالح المعذب) يصرخ (أيوب البابلي) معلناً الحيرة والشك بقوله:
“من ذا الذي يعلم بإِرادة الآلهة في السماء؟
ومن ذا الذي يدرك خطط آلهة العالم الأسفل؟
أين تعلَّم الفانون طريق الرب؟
هذا الذي كان حياً البارحة، اصبح اليوم ميتاً.
للحظة يكون الانسان مكتئباً وفجأة ينقلب منشرحاً.
مرة يُغني بنشوة،
وفي لحظة تالية كأنهم ندابون محترفون…”
أنا حائر إزاء كل هذا إذ لا أفهم جدواه .

وَلَّدت هذه المعتقدات وما ارتبط بها من هاجس الموت والبؤس والحرمان والمرض والحزن وهموم الحياة، بعامة، عناصر الكآبة والقلق والخوف والتشاؤم وعدم الاطمئنان وغياب الاستقرار النفسي والمعيشي. هذه الظروف أحاطت بإنسان وادي الرافدين، خاصة عندما يشعر بِأداء واجباته والتزاماته تجاه الآلهة، وفي نفس الوقت يتلقى الضربات والمصائب التي لا يستحقها . ولم يكن التشاؤم لدى إنسان وادي الرافدين حالة عرضية لليأس، بل كان ميتافيزيقي metaphisics الأصل- غيبي. كمنت جذوره في الآلهة ذاتها التي تجسدت في عناصر الطبيعة والكون وحملت في ذاتها عناصر الخير والشر وأصبحت مصدراً للحياة والكوارث معاً.
الأنهار والرياح والأمطار، مثلاً، وهي جالبة الحياة، يمكن إن تتحول لقوى مدمرة تهلك الزرع والإنسان.. وبمواجهة هذه الظواهر الطبيعية (الآلهة) القاسية، وجد القوم أنفسهم بلا حول ولا قوة.. ولَفَّهم القلق الشديد إزاء ترقبهم لغد غير مضمون تجاه حصيلة جهودهم، بل وحياتهم غير المستقرة.. فكانت حياة الإنسان وعائلته ونتاج حقله وماشيته، ومستويات الأنهار وفيضاناتها، وتوالي الفصول المختلفة، وحتى الكون ذاته، تحت رحمة القدر على الدوام. فإِذا بقي البشر أحياء، وإِذا عادت الحياة إلى الحقول بعد لهيب الصيف، وإِذا استمر القمر والشمس والنجوم والكواكب في حركتها. فإِن كل هذا يتحقق بإِرادة الآلهة التي تقرر مصائر الكون سنوياً. لذلك ففي مطلع ربيع كل عام، كانت تُقام احتفالات هائلة ومثيرة في مدن عديدة، وفي بابل بخاصة، تشمل طقوس الزواج الإِلهي المقدس، وتلاوة ملحمة الخليقة، وإعادة تثبيت الملوك، وتتوج أخيراً باجتماع الآلهة الذين “يقضون في المصائر” للسنة التالية. “عندئذ فقط بوسع الملك العودة إلى عرشه والراعي إلى قطيعه والفلاح إلى حقله. وعندئذ كذلك يستعيد ساكن وادي الرافدين ثقته بما حوله فبإِمكان العالم أن يستمر بالوجود، بِإِرادة الآلهة المسترضاة، لعام آخر أيضاً . “وإذا كانت حياة البابلي شاقة مثل حياة المصري فإِنها لم تستطع أن تحطم بشاشته الطبيعية ومرحه اثناء عمله اليومي. غير أن إنسان بلاد الرافدين كان غريباً عن الضحك، ويبدو أنه لم يكن قد تعلَّم كيف يلهو.
رسمت العقيدة الدينية لإنسان وادي الرافدين أشكالاً معينة من التصرفات والممارسات التي ترضي الآلهة، وأُخرى لا ترضيها وتكون عرضة لجلب غضبها وانتقامها. فحرص القوم على إِرضاء آلهتهم لتحاشي غضبها وإنزال الشرور والأمراض بهم، كما حرصوا على تقديم القرابين لأِرواح الموتى لاعتقادهم بِأنها تحقق الراحة والاستقرار لروح الميت في العالم الأسفل، واهتموا كذلكً بدفن موتاهم وفق الشعائر والطقوس الدينية لأِن ذلك يمنع خروج روح الميت في شكل شبح مخيف يلحق الأذى بالناس. ومع ذلك بقي الإنسان هذا يعيش في خوف دائم من هاجس إِلهي جائر وآلهة
غير مبالين careless. وبملاحظته انتصار الشر على الخير يومياً، استمرت حياته متشائمة، وأصبحت نظرته السائدة: أن حياة الانسان ليست ذات جدوى إن لم تكن تافهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق