اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو
الذات والآخر: تجليات الوفاء في حضرة الاغتراب

بقلم: د. آمال بوحرب
ناقدة وباحثة في الأنثروبولوجيا – تونس
ألانتماء جذر للوجود والكتابة
الانتماء ليس مجرد ارتباط جغرافي أو عاطفي بمكان أو بشخص، بل هو حالة وجودية عميقة، يتجذر فيها الإنسان داخل نسيج العلاقات والمعاني التي تمنحه هوية ودافعًا للثبات. وقد يكون الانتماء إلى الحب، أو إلى كيان إنساني يمثل للوُجود كله، تعويضًا عن تشظّي العالم وتفتّت المعنى. في هذا الإطار، تُقرأ قصيدة “هدأت صيحتي” بوصفها نشيد انتماء داخلي، فيه يتحوّل الحبيب إلى وطنٍ روحي، والحب إلى فعل مقاومة ضد التيه والقلق، والوفاء إلى مرآة للهوية في وجه العاصفة.
⸻يقول الدكتور الشاعر إياد البلداوي
هدأت صيحتي
أنا الحائر ..التائه بين لغات الحروف
أنا الحائر.. بين جمالك دون خوف
يغويني موج البحر
رفرفة اجنحة النوارس
وفؤادي هناك عند جميلتي
عبر المسافات
رائعة الجسد
عذبة النفس تعصف بها الظروف
هنا اتخذت قراري
سأمنحها قلادة ليل جميل
نجوم تملأ السماء
كريستال نادر التكوين
امرأة ترقد بين اجنحة القلب
رسمت جمالها بكمال الحروف
قصيدة مسكونة بين ثرايا
النفس دون جزع أو خوف
سأظل فيك…لن أغادر
البنية العامة والموضوع
ينطلق النص من عمق التيه العاطفي والوجودي، حيث تُستعمل “لغات الحروف” كرمز لحالة العجز أمام كثافة الشعور. من خلال هذه البداية المتوترة، يأخذنا الشاعر في رحلة شعورية نحو الحبيبة بوصفها نقطة التوازن الوحيدة في عالم يفتقد الثبات. القصيدة ليست سردًا لعاطفة، بل تشييد داخلي لعلاقة تمثل بالنسبة للشاعر بُعدًا آخر للكينونة والانتماء.
الصور الفنية والتشبيهات
“يغويني موج البحر”: يوحي بالاضطراب الداخلي، وبقوة الجذب التي تُمارسها الحبيبة على وجدان الشاعر.
“رفرفة أجنحة النوارس”: تشير إلى الحرية والانطلاق، وكأن الشاعر يشتهي التحليق هربًا من القيود.
“امرأة ترقد بين أجنحة القلب”: صورة شاعرية رقيقة تشير إلى الاحتواء والسكينة.
“كريستال نادر التكوين” و”قلادة ليل جميل”: رمزان للجمال النادر والفرادة التي يراها الشاعر في محبوبته.
اللغة والأسلوب
تتميّز لغة القصيدة بالشفافية والرقة، حيث يمزج الشاعر بين الحسّية والرمزية ليخلق فضاء شعريًا غنيًا ومتناغمًا. أسلوبه يعكس توهجًا داخليًا ينبثق من حيرة عميقة لكنه يظل مفعمًا بالأمل والسكينة. إن اختيار تعابير مثل:
• “يغويني موج البحر”
• “رفرفة أجنحة النوارس”
• “قلادة ليل جميل”
• “كريستال نادر التكوين”
تُثري النص بإيقاع متماوج يشبه تلاطم الأمواج، فيتناوب بين القوة والنعومة، بين الحركة والسكون. فالصورة الأولى تستدعي حسّ التوتر والاضطراب الذي يختبره الشاعر، فيما الثانية تنقل انطلاقًا حرًّا يعكس حرية الروح رغم القيود. أما “قلادة ليل جميل” فهي استعارة شاعرية تحمل بعدًا جماليًا خاصًا، إذ تصوّر الحبيبة كحُلي ثمين يزين ظلمة الليل، مما يشير إلى وجودها كضوء في الظلام.
لغة النص ترفض المباشرة الجامدة، فكل كلمة محمّلة بدلالات متعددة تتفاعل مع بعضها، مما يسمح للقارئ بالتأمّل والارتقاء. يستخدم الشاعر أسلوب التشبيه والاستعارة ليمنح الحبيبة أبعادًا أسطورية، وهو ما يضع النص ضمن فضاء فنيّ يحاكي الأسطورة ويجعل من الحُب تجربة مقدسة تتجاوز حدود الواقع.
المعاني والدلالات
القصيدة تتناول مجموعة من المعاني الإنسانية العميقة التي تتجاوز المشاعر السطحية لتلامس وجود الذات في عالم مليء بالضياع والقلق. يمكن تفكيك دلالات النص إلى محاور أساسية:
• الحيرة والتيه
تبدأ القصيدة من حالة اضطراب داخلي، حيث يصور الشاعر نفسه تائهاً بين “لغات الحروف”، دلالة على محاولته التعبير عن عواطف معقدة تتجاوز قدرة اللغة العادية. هذه الحيرة تعكس أزمة وجودية، حيث يصبح التعبير بالكلمات أشبه بمحاولة الإمساك بالماء، فتتلاطم المشاعر دون أن تجد ملاذًا ثابتًا.
• الثبات والقرار
على الرغم من التيه والاضطراب، يُعلن الشاعر قراره بالبقاء وعدم المغادرة، وهذا القرار يعكس موقفًا وجوديًا ناضجًا يقوم على الوعي والالتزام. الوفاء هنا ليس مجرّد عاطفة بل هو فعل مقاومة ضد الاغتراب والفرقة. فالقول “لن أغادرك” يُضفي على النص صفة الحسم والتصميم، ويجعل من الحب موقفًا متمردًا على زوال الأمور.
• الاحتفاء بالجمال
الجمال في النص ليس مجرّد جمال خارجي أو جسدي، بل هو جمال شامل يربط بين الجسد والنفس والروح. الحبيبة توصف بـ”كريستال نادر التكوين” و”قلادة ليل جميل”، وهاتان الصفتان تعكسان فرادتها وجمالها المتلألئ الذي يشبه الضوء في العتمة، مما يمنحها بعدًا شبه أسطوري. هذا الاحتفاء بجمالها يشكل طقسًا شعريًا يؤكد قدرة الحب على إضاءة الحياة ومنحها معنى.
• الاحتواء والدفء النفسي
تصوير الحبيبة كـ”امرأة ترقد بين أجنحة القلب” يرمز إلى الحماية والسكينة. هذا التشبيه يعكس الحاجة الإنسانية للدفء والاحتواء، ويجعل الحب فضاءً آمنًا وسط عواصف الحياة. هو مشهد نفسي ينطوي على أمل وطمأنينة، حيث يصبح القلب بيتًا للآخر، ومأوى للسلام الداخلي.
• الصراع بين الافتتان والخوف
النص يحتضن التوتر بين قوة الجذب التي تمثلها الحبيبة، والخوف من الفقد أو الفناء. هذه الثنائية تبرز في التباين بين الصور المتحركة (موج البحر، النوارس) والصور الساكنة (قلادة الليل، المرأة في القلب)، مما يعكس الصراع الداخلي للشاعر بين الرغبة في التعلق والخشية من الألم.
البعد النفسي والوجودي
القصيدة ترصد حالة عبور من التوتر إلى السكينة، من الصيحة إلى الطمأنينة، كأن الشاعر يعيد كتابة ذاته من خلال الآخر. الحب هنا ليس مجرّد شعور، بل مسار يعيد ترتيب الفوضى الداخلية ويمنح الذات معنًى.
البعد الاجتماعي
يمكن قراءة النص كتعبير عن أزمة الانتماء في عالم مهدد بالقطيعة. تتحول الحبيبة إلى بديل رمزي عن الروابط التي تفككت: العائلة، الوطن، الجماعة. في قرار البقاء، نقرأ فعل مقاومة ضد زمن التفكك العاطفي والاجتماعي. كما أن القصيدة تُعيد الاعتبار إلى العلاقة الصادقة بوصفها بُنية بديلة للتماسك في مجتمعات تتآكل فيها الروابط التقليدي .