اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

جسد المقهى يقتل الزمن..للكاتبة الجزائرية مريم بوشارب

 

” قصة قصيرة “

 

بقلم – مريم بوشارب – الجزائر 

هناك في المقهى، حيث البُعد الثابت بين رُباعية الطاولة المُستطيلة، وبين المَـقعد الجِلدي الناعم ومؤخرة الوقت الذي إنتظر غياباً لن يعود، كان يجلس قلِقاً، يقضم أظافره ويتهجى أرقام ساعته الرولكس التي كانت مثل تميمة بؤس أزلي تلتف حول معصمه، لقد كان يستدير صوب الباب كلّ دقيقتين وعيناهُ متعبتين كالزجاج الأمامي لمحلّ بائع الكتب القديمة، لا أحد يزوره لإلتقاط الذاكرة، لا شيء يتحمّل وِزر إنكساراتِ الظِّل، ثقيلة هي الأيام دون رفقة ما نألفه ولكنّه ألَّفَ البقاء قيد الإنتظار وهناك ارتسمت حوله بُقعةٌ داكنة تشبه توليفاً ميلودرامياً فاشل لمشهد اللازمن.

خارج حدود المكان كان المقهى مشهداً يُكرّر هذيانه النسبيّ، لم يكن مجرداً أو تجريد، كان كيانا هيوليّ النزعة يتحركُ كالجنين داخل أحشاء الزمن نسيّ أو تناسى ولكنه في كلا الحالتين قرر أن يعيش مثل كُتلة ضوئية داخل مغارة الوحدة وتنازل عن كونِه أداة للحياة أو جزء منها.
أما هو فقد تنازل عن كلّ ما كان ينتظره لأجل الإنتظار فقط، تلك الحالة المِزاجية لقاريء فناجين الألم تتسرب إليه مثل متلازمة عبثية، لابد للأزمة الفكرية لعقله اللاواعي أن تتعقد داخل دِماغه أكثر ممّ هي عليه حتى تنحلَّ عقدة الذات التي ورثت زاويا الأمسِ بكلّ خيباته ونداءاته.

من الزاوية الأخرى للمقهى تدخل هي بكامل أناقة الشحوب المُصفّر، تعلو وجهها نظرة قديس يُحتضر، تجلس قُبالته لا تراه ولا يراها، إنّ ثوب الزمن بينهما قد تآكلت خيطانه فاستحال إلى لزوجة رطبة تعكس الوقت، تُخرج من جيب سُترتها الصوفية هاتف ديجيتال قديم الطراز تضعه على الطاولة بعد أن تضغط على زرّ الموسيقى، تتسررب في الجوّ المُعتم للوحدة نوتات بيتهوفن من سيمفونيته السابعة، ترفع خصلات شعرها وتعدّل جلستها لتلتقط آخر أنفاس الضوء الرمادي لليل، إنها التاسعة ليلا والمطر يتحوّل خارج المقهى إلى حالةٍ ساكنة، كأنه يصعد من الأرض إلى السماء بدوران محموم.
المقهى يزفر وسط عاصفة لا تأبه به والمرأة التي تجلس وسط هذا الخريف الفاشل لتوزيع الريح تصطف إلى جانب الزمن بخلفية موسيقية وإستقامة بلهاء، تتحدى الماضي الذي سلب منها لحظة حب تأخرت في الوصولِ إليها.
تندمج داخلهما ترنيمة حزينة يقفان معاً، يطفيء سيجارته ويفك أزرار قميصه العلوية، يلفّ شالا تزيّنه كاروهات متداخلة بألوان داكنة يلتفت نحو المخرج وقد انبعثت من صدره حشرجة تشبه بكاء مكتوم، أما هي تمرّر أناملها الرقيقة على شفتيها كمن يريد إلتقاط قُبلة سقطت هناك ذات شغف، تتدحرج بأناملها نحو سلسالها الفضيّ، تتلمسه وعيناها تفيض بالدموع، تنهض برعونة ثمّ تقفز مباشرة من الزورق الأمامي لبحرِ الخيبة نحو العدم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق