اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو

تأملات في عتبات قصيدة ” من نحن ” للشاعر غزاي درع الطائي

 

فضاءات نيوز / د حسام الربيعي ـــ جامعة ديالى

النص : ”  مَنْ نحنُ ”  ـــ للشاعر  غزاي درع الطائي

رجال
مَـــنْ نحنُ ؟ نحنُ الصّاعدونَ فراقدا والنّازلـــــــونَ على التُّرابِ قصائدا
الرّافعونَ رؤوسَــــــــــــنا حتى وإنْ هَمَتِ السَّماءُ على الرُّؤوسِ جـلامدا
الطّالعونَ كواكبــــــــــــــــاً والقائلو نَ جواهراً والفاعلونَ محامـــــــــدا
والنّاثرونَ دموعَنا ذهبـــــــــــاً على أحبابِنا والجامعونَ قلائــــــــــــــــدا
إنّا لنضحكُ والشَّدائدُ حولَنــــــــــــا وعلى شدائدِنــــــــــــا نكونُ شدائدا
نساء
أمّـــــــــا العراقيّاتُ فاعلَمْ أنَّهُنَّ … العالياتُ مناقباً ومحاتــــــــــــــــــدا
الفاضــــــــــــلاتُ محاسناً ومواقِعاً والطَّيِّباتُ مناهــــــــــــــلاً وروافدا
ربَّينَ صِيداً للسَّواترِ عندمــــــــــــا كانَ العراقُ يريدُ زَنْداً ذائـــــــــــدا
عدو وخيبته
أمّا الأعادي يــــــــــــا عراقُ فإنَّهمْ حطبٌ أعدَّ لهُ الرِّجــــــــــالُ مَواقدا
كمْ فرَّقوا كمْ شرَّقوا كــــــــمْ غرَّبوا لكنْ بقيتَ وسوف تبقى واحـــــــــدا
إنَّ النَّخيلَ لفيهِ نورُ مهـــــــــــــــابةٍ والرّافدينِ ليجريانِ أمــــــــــــــاجدا
أوامر
كونـــــــــوا بخيرٍ واكتبوا أسماءَكُمْ بالتِّبرِ واتَّخذوا النُّجومَ مقاعـــــــــدا
كونوا بخيرٍ واغسلوا أيّامَـــــــــــكُمْ بالطُّهْرِ واتَّخذوا الهمومَ مصــــاعدا
ولتعلموا أنَّ الرَّبيعَ صــــــــــــديقُنا وربوعَنا تبقى تفيضُ مــــــــــواردا
أمّا أمانينا التي لـــــــــــــــم تنقطعْ يوماً فصارتُ للرؤوسِ وسائـــــــدا
مِنْ أجلِ هيبةِ ظلِّنــــــــا ، لسيوفِنا صــــارتْ رؤوسُ المعتدينَ مغامدا
لمّا المســـــــاجدُ أُغلِقَتْ لضرورةٍ صارتْ بيوتُ المؤمنينَ مساجـــــدا
يا أيُّها الماشي على جمرِ الغضـــا إنثُرْ على مــــــــرأى حدائِقِنا النَّدى
واجعلْ عُلاكَ مــــع المعالي عالياً واضربْ حديدَكَ ساخناً لا بـــــاردا

في حضرة القصيدة
الشعر تعبير عن روح الجماعة وقلبها النابض ، أظن أنه هو كذلك ! أو على الأقل ينبغي أن يكون كذلك ! أو أن هذه القصيدة تحمل هذه الملامح ! نقول ذلك تغريدًا خارج السرب بعيدًا عن بعض مفاهيم النظريات التي أنتجت في ما بعد الحداثة التي تقزم – في نظرتي البسيطة – دور الشعر والشاعر في الحياة ، وتحوله إلى تعليقات على هوامش العبث.
ولا أريد هنا في هذا الطرح أن أفرض نوعًا من الوصاية على الشعر أو الشاعر ، فأهم ما في الشعر انطلاقه ، ولا أبغي إدخال الشاعر في صوارم مفاهيم الأسلبة ، وهي فرض مجموعة من الأنماط الإبداعية الشكلية أو المضمونية التي قد تصادر حرية التعبير لدى المبدع ، ولكني أردت نفي العبثية عن السلوك الشعري القائد الذي يؤثر في الحياة ويتأثر بها ، ويعيد تشكيل الحياة وتكوينها على وفق ما يراه الشاعر الحالم ، فحقائق اليوم كانت أحلامًا بالأمس ، فلعل أحلام اليوم تتحول إلى حقائق غدًا.
ونحن في هذا المقال ندخل في حضرة نص ” من نحن ”  ، وهو قصيدة أنتجتها قريحة الشاعر غزاي درع الطائي ، تتكون هذه القصيدة من عنوان براق أولاً ، واسم المؤلف المبدع ثانيًا ، وتسعة عشر بيتًا ثالثًا.
وهي قصيدة عمودية نظمها الشاعر على بحر الكامل التام بعروض وضرب تامين ، وتفعيلات الكامل كما هو معلوم :
مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ
وجاءت القصيدة على قافية دالية مزينة بألف الإطلاق.
وغرض القصيدة هو الفخر ، ومعلوم لدى الدارسين أن الفخر غالبًا ما ينطوي على مجموعة من الأغراض التي يتخذها الشاعر سلمًا لفخره ، والشاعر غزاي درع الطائي جعل فخره ينهل من مناهل مدح ووصف هائمًا في سبحات دعاء خفي.
عتبات النص
عتبات النص مصطلح يعد من المصطلحات المهمة التي دخلت الدراسات الأدبية منذ الثمانينيات، وقد نَظَّرَ له المفكر والناقد الفرنسي جيرار جينيت ، ويقصد به ما يحيط بالنص من ظروف ونصوص مقتضبة كالعنوان والمؤلف ومناسبة النص التي قيل فيها ، وتعد العتبات الخطوات الأولى للتعارف بين النص والمتلقي ، وعلى وفق هذا اللقاء يقرر المتلقي الاستمرار في ولوج عوالم النص أو النكوص والعودة عنه ، فهي بالنسبة للنص بمثابة العتبة للبيت ، فإذا وقفت قدماه عليها فإما أن يدخل أو يرحل ويترك الدار.
وسنعيش في هذا المقال نتفيأ ظلال شيء من عتبات  من نحن  وهي عتبة المؤلف وعتبة العنوان وعتبة المناسبة ، وهذه الثلاثة من أهم العتبات لأي نص تراد دراسته.
من غزاي ؟
القول يكتسب قوته من مصدره ومعرفة المؤلف تعطي كثيرًا من المفاهيم التي تتدخل في صلب العمل وتحل كثيرًا من إشكالاته ، ولا التفات هنا إلى المناهج التي بالغت في إهمال منتج النص ، وحكمت بموت المؤلف ، فهي قد تكون مبررة بردة فعلها على المناهج التي قدست المؤلف ، وأقامت له نصبًا في ثنايا النص. وهذه المناهج أصبح كثير منها من تراث النقد. ولا بأس بمنهج القصد والاعتدال وإنصاف المبدع من غير تقديس ولا إهمال.
عرفت الشاعر الكبير غزاي درع الطائي مبدعًا لم ينضب قلمه السيال على مر السنين ، وهذا ما يعود بنا ويذكرنا بالأوقات المباركة يوم كان القلم لا يفتأ يسطر خلجات الفكر ، ويذيب القلب على صفيح الورق الساخن.
غزاي درع الطائي شاعر ينتمي لاسمه انتماء عجيبًا ، فهو لم يزل يغزو الساحة الأدبية والثقافية بأمواج تلك القصائد التي تهد تلك الكتائب التي يغزوها بسيفه محاربًا لا يبالي بأي ساحة كان النزال.
أصبح بغزواته هذه درعًا للقيم التي بدأ يتخلى عنها بعض أهلها ، فما زال يعلو رأسه شامخًا في وقت تعبت رقاب الأفذاذ عن حمل الرؤوس.
هو يعبر بتلك الأصوات العذبة المنسجمة ، ويشكل منها الألفاظ المتنوعة ، ويركب منها التراكيب المختلفة كرمًا لا يتأتى إلا من الطائي.
كتب الأستاذ غزاي درع الطائي القصيدة العمودية والحرة ، وتنوعت نتاجاته الشعرية تنوعًا كبيرًا من حيث الشكل ومن حيث المضمون ، وأكثر ما يجلو موهبته الشعر العمودي الذي يشعرك كأنك تعيش في العصر العباسي جزالة وفي العصر الحديث موضوعًا ورِقَّةً.
والأستاذ غزاي درع الطائي عازف لا ينفك عن مداعبة أوتار القصيد للعزف على قيثارة الحياة مهما عصفت الرياح بتلك الأوتار العصية على البلى ، وقد عرفته حلو الشمائل مؤدبًا لطيفًا هادئًا مازحًا يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ مثابرًا في طلب العلم والثقافة ، وهو على مشارف الدكتوراه ، ذا علمية لغوية عميقة انعكست ظلالها واضحة في قصائده ، صاحب ثقافة إنجليزية نلمح بعض ملامحها في قصائده ، ولا نكاد نلمح لها أثرًا في هذه القصيدة التي بين أيدينا لخصوصيتها وعدم عالمية موضوعها.

لماذا  ”  من نحن ”    ؟

يعد العنوان أول لقاء بين المتلقي والنص ، وهو نص مقتضب مركز يضعه المؤلف بين يدي نصه المركزي ، ويقوم العنوان مقام بطاقة دعوة للسياحة في مغاني النص.
لقد عنون الشاعر غزاي درع الطائي لقصيدته بعنوان مثير للاهتمام تمايز عن كثير من نتاجه السابق ، وهو  من نحن  ، وهو عنوان أخاذ لافت مختصر معبر عن محتوى النص الفكري والفني معًا.
العنوان  من نحن  متكون من كلمتين بينهما ترابط إسنادي ، وهو من أحكم الترابطات بين كلمات الجملة ، وهذا الترابط هو الإسناد القائم بين المسند والمسند إليه ، أي : بين المبتدأ والخبر ، وقد نتجت عن هذا الترابط تركيب استفهامي ، الكلمة الأولى فيه مبتدأ ، والثانية خبر أو بالعكس ، على خلاف بين إمامي النحو سيبويه والأخفش في مثل هذا التركيب ، وليس هذا موضع بسط المسألة النحوية ، لكن الذي يهمنا من ذلك أن العنوان جاء على شكل سؤال ، الأمر الذي يجعله عنوانًا غير تقليدي ، وهذه الطرافة تأتت مما يثيره السؤال من فضول محمود يحمل المتلقي على محاولة معرفة جوابه عن طريق قراءة النص.

همزة الوصل

وقد كان العنوان واشيًا بمحتوى النص مترابطًا مع النص ترابطًا وثيقًا ، فهو بمثابة همزة الوصل بين داخل النص وخارجه.
فمن الناحية اللفظية هنالك ترابط وثيق بين العنوان والنص ، إذ جعل الشاعر جملة  من نحن  نفسها أول جملة في النص ، فقد كررها كما هي من غير فاصل بينها وبين العنوان ، فهي من ناحية جملة العنوان ، وهي هي الجملة الأولى في البيت الأول من النص من ناحية ثانية ، فصار التكرار مفيدًا للتهويل والتوكيد والتعظيم ، وهو وسيلة ترابط لفظي وثيق بين العنوان والنص تقوم على تكرار اللفظ ذاته بلا تغيير.

جواب الحيرة

وهناك نوع ثان من الترابط بين النص والعنوان وهو الترابط ذو الأبعاد المعنوية ، وهو أن العنوان – كما مر – متشكل على صورة سؤال ، ويمثل النص كله جوابًا على هذا السؤال ، فإذا أثار العنوان فضول المتلقي فإن النص سيشبع نهمه للمعرفة ، فالترابط هذا بين العنوان والنص وثيق جدًا وثاقة الترابط بين السؤال وجوابه.
العنوان كان الشاعر فيه موفقًا تمام التوفيق من ناحية صياغته من تلاحم أجزائه بعضها ببعض ، وتلاحمه مع النص حتى كأنه جزء منه رغم الاستقلالية النسبية التي يتمتع بها من كونه جملة تامة ، وتشكله نصًّا مقتضبًا هو من عتبات النص الأصلي.

دلالة الجملة الاستفهامية

ومن ناحية الدلالة التي يحملها عنوان  من نحن  والعمق الذي ينطوي عليه هذا العنوان ، فالسؤال يستدعي الفهم لكنه هنا يقول لنا من نحن ، ولا يسألنا من نحن. وبينهما فرق كبير ؛ إذ خرجت الجملة من الناحية الدلالية من الاستفهام إلى الإخبار ، فكأنه قال : (ماهيتنا) ، أو قال : (هويتنا).
واسم الاستفهام (من) بعد قراءتنا للقصيدة يتبين لنا أنه يدل على:
1- الرجال رجال العراق الأشداء الأبطال الذين لا يبالون بصروف الدهر بالأبيات الخمسة الأولى.
2- نساء العراق العراقيات العفيفات الجميلات اللاتي ربين خيرة الأبطال لما احتاجهم ساتر المعركة في الأبيات الثلاثة في المقطع الثاني.
3- العدو وخيبته ففي بعض الأحيان حين تضطرب الأفكار تعرف نفسك بمعرفة عدوك كما فعل الشاعر في المقطع الثالث المتكون من ثلاثة أبيات كذلك ، وكما قالوا : بضدها تتميز الأشياء.
4- وبقية الأبيات يقوم فيها الشاعر بدور المعلم الذي يرشد الناس الذين فقدوا البصيرة بمجموعة من الأوامر استغرقت المقطع الرابع في القصيدة ليصوغ لنا أوامر مختلفة الصيغ والأغراض ، وهذا المقطع الأخير كان بمثابة خريطة طريق يرسمها الشاعر بعينيه الشعريتين الثاقبتين ليخلصهم من التيه الذي كتبوه على أنفسهم ، وأقنعهم به عدوهم.

لماذا الآن (  من نحن ) 

وأنا أقرأ هذه القصيدة اجتاحني شعور بالأمية المعرفية والوجدانية ، فقلت في نفسي لنفسي : صحيح ، من نحن ؟ فاكتشفت أننا بدأنا نفقد البوصلة من دون أن نشعر ، فما قيمة أن تعرف كل شيء عن الدنيا ولا تعرف من أنت ! ذلك هو الجهل الموغل في غياهب الأوهام بأنك مثقف وعالم واعٍ ، ما أتعس الحياة حين تغيب عن أذهاننا ألفباء الوجود ، هذه المسلمات التي يجب أن يعرفها الإنسان في المدرسة الابتدائية ، بل يرضعها الطفل مع حليب أمه ، ومع ذلك بدأت تغيب عن نخب الثقافة والعلوم في مجتمعاتنا.

قصيدة في موعد مع القدر

لقد جاء هذا العنوان في موعده مع القدر ، فهو حاجة اجتماعية صيغت على شكل قصيدة ، يكاد فيها الشاعر أن يكون مصلحًا اجتماعيًا ينظر بدقة إلى الشعب العراقي ، ويشخص مرضه الذي أصابه ، إذ إن هذا العنوان يأتي في وقت تكاد تضيع فيه الهوية العراقية في خضم العولمة وظروف العراق والمنطقة ، فقد ضاعت البوصلة في أمواج هذه الأحداث الهائجة ، ألقوميتنا ننتمي أم لقومية أخرى عدو لنا ؟ ألوطننا ولاؤنا أم لمن يحتل أرضنا من الأقارب والأباعد ؟ أمهزومون نحن أم منتصرون ؟ أعلى متن الصفحة نحن أم في هامشها ؟ أين المرأة في مجتمعنا ؟ ما موقفنا من كل ما يجري حولنا ؟ وفي كل ذلك الصراخ ما عدنا ندري من نحن ؟ فجاءت هذه القصيدة لتضع النقاط على الحروف ، وأخيرًا أحب أن أقول للشاعر :
شكرًا غزاي لأنك بهذه القصيدة أعدت إنتاج ذاكرتنا الجمعية العراقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
إغلاق